فصل: سورة الذاريات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 16‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ‏(‏12‏)‏ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ‏(‏13‏)‏ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏15‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

ولما وصل الأمر إلى حد لا خفاء معه، فصح أنهم يعلمون ذلك ولم يحملهم على التصريح بالتكذيب به إلا المبادرة إلى ذلك بغلبة الهوى من غير تأمل لعاقبته، فصار من باب لزوم الغلط، وكان السياق لإنكار البعث الذي جاء به منذر من القوم المنذرين، كان كأنه قيل‏:‏ إن إنكار هؤلاء أعجب، فهل وقع هذا لأحد قط، فقال تعالى مسلياً لهذا النبي الكريم لأن المصيبة إذا عمت هانت، مبيناً لمجد القرآن ولمجد آياته تحقيقاً للإنذار وتحذيراً به لا للنصيحة‏:‏ ‏{‏كذبت‏}‏ وسم الفعل بالتاء إشارة إلى هوانهم في جنب هذا المجد ولما كان هؤلاء الأحزاب المذكورون لقوتهم وكثرتهم كأنهم أهل المجد قاطبة قد استغرقوا زمانها ومكانها، أسقط الجارّ فقال‏:‏ ‏{‏قبلهم‏}‏‏.‏

ولما لم تكن لهم شهرة يعرفون بها قال‏:‏ ‏{‏قوم نوح‏}‏ وأشار إلى عظيم التسلية بأنهم جاءهم منذر منهم، وكانوا في القوة في القيام فيما يحاولونه والكثرة بحيث لا يسع الأفهام جميع أوصافهم، فآذوا رسولهم وطال أذاهم قريباً من عشرة قرون ولما كان آخر أمرهم أنه التقى عليهم الماءان‏:‏ ماء السماء، وطلع إليهم ماء الأرض فأغرقهم، أتبعهم من طائفتهم قصتهم بأن نزل بهم الماء فأوبقهم لما بين حاليهم من الطباق دلالة على عظيم القدرة والفعل بالاختيار فقال‏:‏ ‏{‏وأصحاب الرس‏}‏ أي البئر التي تقوضت بهم فخسفت مع ما حولها فذهبت بهم وبكل ما لهم كما ذكرت قصتهم في الفرقان‏.‏ ولما كانت آية قوم صالح من أعظم الدلالات على القدرة على البعث، وكان إهلاكهم مناسباً لإهلاك من قبلهم، أما لأصحاب الرس فكان بالرجفة التي هي على مبدأ الخسف، وأما لقوم نوح فلأن الرجفة تأثرت عن الصيحة التي حملتها الريح التي من شأنها حمل السحاب الحامل للماء، أتبعهم بهم، وكانوا أصحاب بئر ولم يخسف بهم فقال‏:‏ ‏{‏وثمود *‏}‏ ولما اتفق قوم هود عليه السلام والقبط بالإهلاك بالريح التي أثرت بها صيحة ثمود، أولئك مع الحجارة والرمل وهؤلاء بالماء الذي فرقه الله بالريح عند ضرب العصي، وكان لكل منهما من ضخامة الملك وعز السلطان ما هو مشهور قدم أشدهما أبداناً وأوسعهما ملكاً لأن إهلاكهم كان أدل دليل على القدرة وأقرب شبهاً بهلاك ثمود فقال‏:‏ ‏{‏وعاد‏}‏ وعطف عليه أقرب الطائفتين شبهاً بالهلاك بقوم نوح وأصحاب الرس فقال‏:‏ ‏{‏وفرعون‏}‏ نص عليه لأنه ليس في مادة هذا الغرق كافر غيره، والنص عليه يفهم غيره، وما تقدم في غير هذه السورة غير مرة من وصفه بأنه ملك قاهر وأنه استخفهم فأطاعوه فيعلم كفرهم طاعة له، وأنه ليوافق ما قبله وما بعده‏.‏ ولما كان السياق للعزة والشقاق، فلم يدع داع إلى إثبات ذي الأوتاد‏.‏

ولما كان هلاك المؤتفكات جامعاً في الشبهة بهلاك جميع من تقدم بالخسف وغمرة الماء بعد القلب في الهواء، أتبعهم بهم معبراً عنهم بأخصر من تسميه قبائلهم أو مدنهم لأنها عدة مدن، وعبر بالأخوة دون القوم لأن السياق لتكذيب من هو منهم لأنه أدخل في التسلية فقال‏:‏ ‏{‏وإخوان لوط *‏}‏ أي أصهاره الذين جبروا بينهم وبينه مع المصاهرة بالمناصرة لملوكهم ورعاياهم على من ناواهم بنفسه وعمه إبراهيم عليهما السلام كما مضى بيانه في البقرة ما صار كالأخوة، ومع ذلك عاملوه بما اشتق من لفظ هذا الجمع من الجناية له ولأنفسهم وغيرهم‏.‏

ولما كان الشجر مظنة الهواء البارد والروح، وكان أصحابه قد عذبوا بضد ذلك قال‏:‏ ‏{‏وأصحاب الأيكة‏}‏ لمشاركتهم لهم في العذاب بالنار، وأولئك بحجارة الكبريت النازلة من العلو وهؤلاء بالنار النازلة من ظلمة السحاب، وعبر عنهم بالواحدة والمراد الغيضة إشارة إلى أنها من شدة التفافها كالشجرة الواحدة‏.‏ ولما كان ‏{‏تبع‏}‏ مع كونه من قومه ملكاً قاهراً، وخالفوه مع ذلك، وكان لقومه نار في بلادهم يتحاكمون إليها فتأكل الظالم، ختم بهم فقال‏:‏ ‏{‏وقوم تبع‏}‏ مع كونه مالكاً، وهو يدعوهم إلى الله، فلا يظن أن التكذيب مخصوص بمن كان قوياً لمن كان مستضعفاً، بل هو واقع بمن شئنا من قوي وضعيف، لا يخرج شيء عن مرادنا‏.‏

ولما لم يكن هنا ما يقتضي التأكيد مما مر بيانه في ص قال معرياً منه‏:‏ ‏{‏كل‏}‏ أي من هذه الفرق ‏{‏كذب الرسل‏}‏ أي كلهم بتكذيب رسولهم، فإن الكل متساوون فيما يوجب الإيمان من إظهار العجز والدعاء إلى الله ‏{‏فحقَّ‏}‏ فتسبب عن تكذيبهم لهم أنه ثبت عليهم ووجب ‏{‏وعيد‏}‏ أي أي الذي كانوا يكذبون به عند إنذارهم لهم إياه، فعجلنا لهم منه في الدنيا ما حكمنا به عليهم في الأزل فأهلكناهم إهلاكاً عاماً كإهلاك نفس واحدة على أنحاء مختلفة كما هو مشهور عند من له بأمثاله عناية وأتبعناه ما هو في البرزخ وأخرنا ما هو في القيامة إلى البعث، بإهلاكنا لهم على تنائي ديارهم وتباعد أعصارهم وكثرة أعدادهم أن لنا الإحاطة البالغة فتسلَّ بإخوانك المرسلين وتأسَّ بهم، ولتحذر قومك ما حل بمن كذبهم إن أصروا‏.‏

ولما ذكر سبحانه التسلية بتكذيب هذه الأحزاب بعد ذكر تكذيب قريش وإقامة الأدلة القاطعة على ما كذبوا به وبطلان تكذيبهم، وختم بحقوق الوعيد الذي شوهدت أوائله بإهلاكهم، فثبت صدق الرسل وثبتت القدرة على كل ما يريد سبحانه بهذا الخلق من الإيجاد والإعدام أنكر عليهم التكذيب ووبخهم عليه تقريراً لحقوق الوعيد، فقال مسبباً عن تكذيبهم بعد ما ذكر أنه خلق جميع الوجود‏:‏ ‏{‏أفعيينا بالخلق‏}‏ أي حصل لنا على ما لنا من العظمة الإعياء، وهو العجز بسبب الخلق في شيء من إيجاده وإعدامه ‏{‏الأول‏}‏ أي من السماوات والأرض وما بينهما حين ابتدأناه اختراعاً من العدم، ومن خلق الإنسان وسائر الحيوان مجدداً، ثم في كل أوان من الأطوار المشاهدة على هذه التدريجات المعتادة بعد أن خلقنا أصله على ذلك الوجه مما ليس له أصل في الحياة، وفي إعدامه بعد خلقه جملة كهذه الأمم أو تدريجاً كغيرهم ليظنوا بسبب العجز بالخلق الأول الذي هو أصعب في مجاري العادات من الإعادة أن نعجز عن الإعادة ثانياً، يقال‏:‏ عيي بالأمر- إذا لم يهتد لأمره أو لوجه مراده أو عجز عنه، ولم يطق إحكامه‏.‏

ولما كان التقدير قطعاً بما دلت عليه همزة الإنكار‏:‏ لم نعي بذلك بل أوجدناه على غاية الإحكام للظرف والمظروف وهم يعلمون ذلك ولا ينكرونه ويقرون بتمام القدرة عليه، وفي طيه الاعتراف بالبعث وهم لا يشعرون أضرب عنه لقولهم الذي يخل باعتقادهم إياه فقال‏:‏ ‏{‏بل هم في لبس‏}‏ أي خلط شديد وشبهة موجبة للتكلم بكلام مختلط لا يعقل له معنى، بل السكوت عنه أجمل، قال علي رضي الله عنه‏:‏ يا جار، إنه لملبوس عليك، اعرف بالحق تعرف أهله‏.‏ ولبس الشيطان عليهم تسويله لهم أن البعث خارج عن العادة فتركوا لذلك القياس الصحيح والحكم بطريقة الأولى ‏{‏من‏}‏ أجل ‏{‏خلق جديد *‏}‏ أي الإعادة‏.‏ ولما ذكر خلق الخافقين، أتبعه خلق ما هو جامع لجميع ما هو فيها فقال‏:‏ ‏{‏ولقد‏}‏ أي والحال أنا قد ‏{‏خلقنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏الانسان‏}‏ وهو أعجب خلقاً وأجمع من جميع ما مضى ذكره بما فيه من الأنس والطغيان، والذكر والنسيان، والجهل والعرفان، والطاعة والعصيان، وغير ذلك من عجيب الشأن، ووكلنا به من جنودنا من يحفظه فيضبط حركاته وسكناته وجميع أحواله ‏{‏ونعلم‏}‏ أي والحال أننا نعلم بما لنا من الإحاطة ‏{‏ما توسوس‏}‏ أي تكلم على وجه الخفاء، ‏{‏به‏}‏ الآن وفيما بعد ذلك مما لم ينقدح بعد من خزائن الغيب إلى سر النفس كما علمنا ما تكلم ‏{‏نفسه‏}‏ وهي الخواطر التي تعترض له حتى أنه هو ربما عجز عن ضبطها، فنحن نعلم أن قلوبهم عالمة بقدرتنا على أكمل ما نريد وبصحة القرآن وإعجازه وصدق الرسول به صلى الله عليه وسلم وامتيازه، وإنما حملهم الحسد والنفاسة والكبر والرئاسة على الإنكار باللسان حتى صار ذلك لهم خلقاً وتمادوا فيه حتى غطى على عقولهم، فصاروا في لبس محيط بهم من جميع الجوانب‏.‏

ولما كان العالم بالشيء كلما كان قريباً منه كان علمه به أثبت وأمكن، قال ممثلاً لعلمه ومصوراً له بما نعلم أنه موجبه‏:‏ ‏{‏ونحن‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏أقرب إليه‏}‏ قرب علم وشهود من غير مسافة ‏{‏من حبل الوريد *‏}‏ لأن أبعاضه وأجزاءه تحجب بعضها بعضاً، ولا يحجب علم الله شيء، والمراد به الجنس، والوريدان عرقان كالحبلين مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلات من الرأس إلى الوتين وهو عرق القلب، وهذا مثل في فرط القرب، وإضافته مثل مسجد الجامع، وقد مضى في تفسير سورة المائدة عند قوله ‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ ما ينفع هنا، قال القشيري‏:‏ وفي هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وأنس وسكون قلب لقوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ‏(‏17‏)‏ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ‏(‏18‏)‏ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ولما كان سبحانه قد وكل بنا حفظة تحفظ أعمالنا وتضبط أقوالنا وأحوالنا، فكان المعروف لنا أن سبب الاستحفاظ خوف الغفلة والنسيان، قدم سبحانه الإخبار بكمال علمه فأمن ذلك المحذور، علق بأقرب أو نعلم قوله تأكيداً لما علم من إحاطة علمه من عدم حاجته، وتخويفاً بما هو أقرب إلى مألوفتنا ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏يتلقى‏}‏ أي بغاية الاجتهاد والمراقبة والمراعاة من كل إنسان خلقناه وأبرزناه إلى هذا الوجود ‏{‏المتلقيان‏}‏ وما أدراك ما هما‏؟‏ ملكان عظيمان حال كونهما ‏{‏عن اليمين‏}‏ لكل إنسان قعيد منهما ‏{‏وعن الشمال‏}‏ كذلك ‏{‏قعيد *‏}‏ أي رصد وحبس مقاعد لذلك الإنسان بأبلغ المقاعدة ونحن أقرب منهما وأعلم علماً، وإنما استحفظناهما لإقامة الحجة بهما على مجاري عاداتكم وغير ذلك من الحكم‏.‏

ولما كانت الأفعال اللسانية والقلبية والبدنية ناشئة عن كلام النفس، فكان الكلام جامعاً، قال مبيناً لإحاطة علمه بإحاطة من أقامه لحفظ هذا الخلق الجامع في جواب من كأنه قال‏:‏ ما يفعل المتلقيان‏:‏ ‏{‏ما يلفظ‏}‏ أي يرمي ويخرج المكلف من فيه، وعم في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من قول‏}‏ أي مما تقدم النهي عنه في الحجرات من الغيبة وما قبلها وغير ذلك قل أو جل ‏{‏إلا لديه‏}‏ أي الإنسان أو القول على هيئة من القدرة والعظمة هي من أغرب المستغرب ‏{‏رقيب‏}‏ من حفظتنا شديد المراعاة له في كل من أحواله ‏{‏عتيد *‏}‏ أي حاضر مراقب غير غافل بوجه، روى البغوي بسنده من طريق الثعلبي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال‏:‏ دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر»‏.‏

ولما كان مثل إرسال الخافقين ثم الموت ثم النفخ بإرسال الملك في الدنيا إلى الناس لعرضهم فيصير الإنسان منهم ساعياً في التزين للملك بما يعجبه في مقصود ذلك العرض في الأجل الذي ضربه لهم، فإذا جاء ذلك الوقت الذي هو كالموت أخذته الرسل فباءوا به كما يفعل حال الموت بالميت ومن أحضروه منهم حبسوه على باب الملك لتكامل المعروضين، فإذا كمل جمعهم وأمر بقيامهم للعرض زعق لهم المنادي بالبوق الذي يسمى النفير وهو كالصور، فلهذا قال تعالى مبيناً لإحاطة قدرته بجميع خلقه عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فاضطرب ذلك الإنسان الموكل به في الوقت المأمور بالتردد فيه بما يرضي الله بالقول والفعل على حسب إرادته سبحانه سواء كان موافقاً للأمر أو مخالفاً إلى أن أوان الرحيل معبراً بالماضي تنبيهاً على أن الموت مع أنه لا بد منه قريب جداً‏:‏ ‏{‏وجاءت‏}‏ أي أتت وحضرت ‏{‏سكرة الموت‏}‏ أي حالته عند النزع وشدته وغمرته، يصير الميت بها كالسكران، لا يعي وتخرج بها أحواله وأفعاله وأقواله عن قانون الاعتدال، ومجيئاً متلبساً ‏{‏بالحق‏}‏ أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع فلا حيلة في الاحتراس منه من بطلان الحواس وكشف الغطاء عن أحوال البرزخ من فتنة السؤال وضيق المجال أو سعة الحال، وقيل للميت بلسان الحال إن لم يكن بلسان القال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي هذا الأمر العظيم العالي الرتبة الذي يحق لكل أحد الاعتداد له بغاية الجد ‏{‏ما‏}‏ أي الأمر الذي ‏{‏كنت‏}‏ جبلة وطبعاً‏.‏

ولما كانت نفرته منه وهربه من وقوعه بحفظ الصحة ودواء الأداء في الغاية، كان كأنه لا ينفر إلا منه، فأشار إلى ذلك بتقديم الجارّ فقال‏:‏ ‏{‏منه تحيد *‏}‏ أي تميل وتنفر وتروع وتهرب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 26‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ‏(‏20‏)‏ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ‏(‏21‏)‏ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ‏(‏22‏)‏ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ‏(‏23‏)‏ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏24‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ‏(‏25‏)‏ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير‏:‏ فأخذ ذلك الإنسان بالقهر من بين الأهل والإخوان، والعشائر والجيران، وضم إلى عسكر الموتى وهم بالبرزخ نزول، ولانتظار بقيتهم حلول، ولم يزالوا كذلك حتى تكامل القادمون عليهم الواصلون إليهم، عطف عليه قوله مبنياً لإحاطة من عامل الملكوت والعز والجبروت‏:‏ ‏{‏ونفخ‏}‏ أي بأدنى إشارة وأيسر أمر ‏{‏في الصور‏}‏ وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام للموت العام والبعث العام عند التكامل، وانقطاع أوان التعامل، وهو بحيث لا يعلم قدر عظمه واتساعه إلا الله تعالى، وهو عليه الصلاة والسلام التقم الصور من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر، فيا لها من عظمة ما أغفلنا عنها، وأنسانا لها، وآمننا منها، والمراد بهذه نفخة البعث‏.‏

ولما كان ذلك الأثر عن النفس هو سر الوجود، وأشار إلى عظمته بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الوقت الكبير العظيم الأهوال والزلازل والأوجال ‏{‏يوم الوعيد *‏}‏ أي الذي يقع فيه ما وقع الإيعاد به‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فكان من تلك النفخة صيحة هائلة ورجة شاملة، فقال الناس عامة من قبورهم، وحصل ما في صدورهم، عطف عليه قوله بياناً لإحاطة العرض‏:‏ ‏{‏وجاءت كل نفس‏}‏ أي مكلفة كائناً ‏{‏معها سائق‏}‏ يسوقها إلى ماهي كارهة للغاية لعلمه بما قدمت من النقائص ‏{‏وشهيد *‏}‏ يشهد عليها بما عملت، والظاهر من هذا أن السائق لا تعلق له بالشهادة أصلاً، لئلا تقول تلك النفس‏:‏ إنه خصم، والخصم لا تقبل شهادته، ويقال حينئذ للمفرط في الأعمال في أسلوب التأكيد جرياً على ما كان يستحقه إنكاره في الدنيا، وتنبيهاً على أنه لعظمه مما يحق تأكيده‏:‏ ‏{‏لقد كنت‏}‏ أي كوناً كأنه جبلة لك ‏{‏في غفلة‏}‏ أي عظيمة محيطة بك ناشئة لك ‏{‏من هذا‏}‏ أي من تصور هذا اليوم على ما هو عليه من انقطاع الأسباب، والجزاء بالثواب أو العقاب لأنه على شدة جلائه خفي على من اتبع الشهوات ‏{‏فكشفنا‏}‏ بعظمتنا بالموت ثم بالعبث ‏{‏عنك غطاءك‏}‏ الذي كان يحجبك عن رؤيته من الغفلة بالآمال في الجاه والأموال وسائر الحظوظ والشهوات، تحقيقاً لما له سبحانه من الإحاطة بالتقدير والتعجيز، وعن الواسطي‏:‏ من كشف عنه غطاء الغفلة أبصر الأشياء كلها في أسر القدرة وانكشف له حقائق الأشياء بأسرها، وهذا عبارة عن العلم بأحوال القيامة‏.‏

ولما تسبب عن هذا الكشف الانكشاف التام، عبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏فبصرك اليوم‏}‏ أي بعد البعث ‏{‏حديد *‏}‏ أي في غاية الحدة والنفوذ، فلذا تقر بما كنت تنكر‏.‏

ولما أخبر أخبر تعالى بما تقوله له الملائكة أو من أراد من جنوده، وكان قد أخبر أن معبوداتهم من الأصنام والشياطين وغيرها تكون عليهم يوم القيامة ضداً، أخبر بما يقول القرين من السائق والشهيد والشيطان الذي تقدم حديثه في الزخرف، فقال عاطفاً على القول المقدر قبل «لقد» معبراً بصيغة المضي تأكيداً لمضمونه وتحقيقاً‏:‏ ‏{‏وقال قرينه‏}‏ أي الشيطان الذي سلط على إغوائه واستدراجه إلى ما يريد‏.‏

نقله الكرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما ‏{‏هذا‏}‏ أي الإنسان الذي قرنتني به‏.‏ ولما كان الأمر في كل من الطائع والعاصي في غاية العجب، لأن الطائع ينابذ هواه فيكون ملكياً مجرداً من حظوظه ونوازع نفوسه وما بنيت عليه من النقائص والشهوات، والعاصي طوع يدي الشيطان، يصرفه في أغراضه كيف يشاء، فيطيعه بغاية الشهوة مع علمه بعداوته، وأن طاعته لا تكون إلا بمخالفة أمر الله الولي الودود، وكان العاصي أكثر كثرة يكون الطائع فيها بالنسبة إليه كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، وكان ذلك منابذاً للعقل، أشار إلى هذه المنابذة بأداة من لا يعقل وإلى جميع ما في أمره من العجب بلدي فقال‏:‏ ‏{‏ما لدي‏}‏ أي الأمر الذي عندي من الأمر المستغرب جداً لكون المطيع عصاني، وهو مطبوع على النقائص والحظوظ التي يرى أنها حياته ولذته وراحته، والعاصي أطاعني وهو يعلم بعقله أني شر محض، وترك الخير المحض وهو عالم بأن في ذلك هلاكه ‏{‏عتيد *‏}‏ أي حاضر مهيأ لما يراد منه‏.‏

ولما كانت العادة جارية بأن من أحضر إليه شيء تبادر إلى أمهر بقوله أو فعل، وصل بذلك ما هو نتيجته، وبدأ بالعاصي لأن المقام له، فقال ما يدل على أنه لا وزن له، فلا وقفة في عذابه بحسابه ولا غيره، مؤكداً خطاباً للمؤكد بالإلقاء أو خطاباً للسائق والشهيد، أو السائق وحده مثنياً لضميره تثنية للأمر كأنه قال‏:‏ ألق ألق- تأكيداً له وتهويلاً‏:‏ ‏{‏ألقيا‏}‏ أي اطرحا دفعاً من غير شفقة، وقيل‏:‏ بل هو تثنية وأصل ذلك أن الرفقة أدنى ما يكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبه، ألا ترى أن الشعراء أكثر شيء قيلاً‏:‏ يا صاحبيّ يا خليليّ، والسر فيه إذا كان المخاطب واحداً إفهامه أنه يراد منه الفعل بجد عظيم تكون قوته فيه معادلة لقوة اثنين ‏{‏في جهنم‏}‏ أي النار التي تلقى الملقى فيها بما كان يعامل به عباد الله من الكبر والعبوسة والتكره والتعصب‏.‏ ولما كان المقصود تعليل إلقائه بوصف يعم غيره ليكون لطفاً لمن أراد الله عصمته ممن سمع هذا المقال وحجة على من أراد الله إهانته‏:‏ ‏{‏كل كفار عنيد *‏}‏ أي مبالغ في ستر الحق والمعاداة لأهله من غير حجة حمية وأنفة نظراً إلى استحسان ما عنده والثبات عليه تجبراً وتكبراً على ما عند غيره ازدراء له كائناً من كان ‏{‏مناع‏}‏ أي كثير المنع ‏{‏للخير‏}‏ من ‏{‏مريب *‏}‏ أي داخل في الريب وهو الشك والتهمة في أمر الدين، وموقع غيره فيه، ثم أبدل من «كل» قوله بياناً لمبالغته في الكفر الذي أوجب له كل شر ‏{‏الذي جعل‏}‏ كفراً مضاعفاً وعناداً ومنعاً للخير الذي يجب عليه في قلبه ولسانه وبدنه، وتجاوزاً للحدود دخولاً في الشك وإدخالاً لغيره فيه ‏{‏مع الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال، فليس أمره خفياً عن كل ذي عقل ‏{‏إلهاً‏}‏‏.‏

ولما كان ربما تعنت متعنت فنزل الآية على من يدعو الله بغير هذا الاسم الأعظم، صرح بالمراد بقوله‏:‏ ‏{‏آخر‏}‏ وزاد الكلام أنه مأخوذ من التأخر الناظر إلى الرداءة والسقوط عن عين الاعتبار بالكلية‏.‏

ولما كان هذا قد جحد الحق الواجب لله لذاته مع قطع النظر عن كل شيء ثم ما يجب له من جهة ربوبيته وإنعامه على كل موجود، ثم من جهة إدامة إحسانه مع المعصية بالحلم، وعاند في ذلك وفي إثباته للغير ما لا يصح له بوجه من الوجوه، سبب عن وصفه قوله‏:‏ ‏{‏فألقياه في العذاب‏}‏ أي الذي يزيل كل عذوبة ‏{‏الشديد *‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 33‏]‏

‏{‏قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏27‏)‏ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ‏(‏28‏)‏ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏29‏)‏ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ‏(‏30‏)‏ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ‏(‏31‏)‏ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ‏(‏32‏)‏ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ‏(‏33‏)‏‏}‏

ولما كان القرين قد قال ما تقدم مريداً به- جهلاً منه- الخلاص من العذاب بإظهار أنه ليس بأوصاف هذه النفس، بل من كبار المؤمنين، فأجيب مقاله بإلقاء تلك النفس معللاً للأمر بإلقائها بما شمل هذا القرين، فتشوف السامع إلى ما يكون من حاله، وكانت العادة جارية أن من تكلم في شخص بما فيه مثله ولا سيما إن كان هو السبب فيه أو كان قد تكلم ذلك الشخص فيه، فكان قياس ذلك يقتضي ولا بد أن تقول تلك النفس القول فيها، وهذا عند الأمر بإلقائها‏:‏ ربنا هو أطغاني‏:‏ أجاب تعالى عند هذا التشوف بقوله‏:‏ ‏{‏قال قرينه‏}‏ منادياً بإسقاط الأداة دأب أهل أهل القرب إيهاماً أنه منهم‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أيها المحسن إلينا أيتها الخلائق كلهم ‏{‏ما أطغيته‏}‏ أي أوقعته فيما كان فيه من الطغيان، فإنه لا سلطان لي عليه وأنت أعلم بذلك ‏{‏ولكن كان‏}‏ بجبلته وطبعه ‏{‏في ضلال بعيد *‏}‏ محيط به من جميع جوانبه لا يمكن رجوعه معه، فلذلك كان يبادر إلى كل ما يغضب الله، وإن حركته إليه أن فإنه لا يحتاج إلى أدنى تحريك فيثور له ثورة من هو مجبول مركوز في طباعه‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ بم يجاب عن هذا‏؟‏ وهل يقبل منه‏؟‏ قيل‏:‏ لا ‏{‏قال‏}‏ أي الملك المحيط علماً وقدرة الذي حكم عليهم في الأزل‏:‏ ‏{‏لا تختصموا‏}‏ أي لا توقعوا الخصومة بهذا الجد والاجتهاد ‏{‏لديَّ‏}‏ أي في دار الجزاء بهذه الحضرة التي هي فوق ما كنتم تدركونه من الأخبار عنها بكثير، وأعجب بما يدرك حق الإدراك، فقد أتم انكشاف ما كان يستغربه الخاصة بل خاصة الخاصة، ففات بانكشافها نفع إيمان جديد ‏{‏وقد‏}‏ أي والحال أنه قد ‏{‏قدمت‏}‏ أي تقدمت، أي أمرت وأوصيت قبل هذا الوقت موصلاً ومنهياً ‏{‏إليكم‏}‏ أي كل ما ينبغي تقديمه حتى لم يبق لبس ولا تركت لأحد حجة بوجه، وجعلت ذلك رفقاً بكم ملتبساً ‏{‏بالوعيد *‏}‏ أي التهديد وهو التخويف العظيم على جميع ما ارتكبتموه من الكفران والعدوان في الوقت الذي كانت فيه هذه الحضرة التي هي غيب الغيب ومستورة بستائر الكبرياء والعظمة وبل كان ما دونها من الغيب مستوراً، فكان الإيمان به نافعاً‏.‏

ولما كانت الأوقات كلها عنده سبحانه حاضرة، عبر سبحانه في تعليل ذلك ب «ما» التي للحاضر دون «لا» التي للمستقبل فقال‏:‏ ‏{‏ما يبدل‏}‏ أي يغير من مغير ما كان من كان بوجه من الوجوه بحيث يجعل له بدل فيكون فيه خلف ‏{‏القول لدي‏}‏ أي الواصل إليكم من حضرتي التي لا يحاط بأمر غرابتها بأن من أشرك بي لا أغفر له وأغفر ما دون ذلك لمن أشاء، والعفو عن بعض المذنبين ليس تبديلاً لأن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد، وأنه مشروط بشرائط ‏{‏وما أنا‏}‏ وأكد النفي فقال‏:‏ ‏{‏بظلام‏}‏ أي بذي ظلم ‏{‏للعبيد *‏}‏ لا القرين ولا من أطغاه ولا غيرهم، فأعذب من لا يستحق أو أعفو عمن قلت‏:‏ إني لا أغفر له وأمرت جندي فعادوه فيّ، ولو عفوت عنه كنت مع تبديل القول قد سؤتهم بإكرام من عادوه فيّ ليس إلا‏.‏

ولما كان هذا التقاول مما يهول أمره ويقلع القلوب ذكره، صور وقته بصورة تزيد في ذلك الهول، وينقطع دون وصفها القول، ولا يطمع في الخلاص منها بقوة ولا حول، فقال ما معناه‏:‏ يكون هذا كله ‏{‏يوم‏}‏ ولما كان المقصود الإعلام بأن النار كبيرة مع ضيقها، فهي تسع من الخلائق ما لا يقع تحت حصر، وأنها مع كراهتها لمن يصلاها وتجهمها لهم تحب تهافتهم فيها وجلبهم إليها عبر عنه على طريق الكناية بقوله‏:‏ ‏{‏نقول‏}‏ أي على ما لنا من العظمة التي لا يسوغ لشيء أن يخفى عنها ‏{‏لجهنم‏}‏ دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم إظهاراً للهول بتصوير الأمر المهدد به، وتقريع الكفار، وتنبيه من يسمع هذا الخبر عن هذا السؤال من الغفلة‏:‏ ‏{‏هل امتلأت‏}‏ فصدق قولنا ‏{‏لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 119‏]‏ وذلك بعد أن يلقى فيها من الخلائق ما لا يحيط به الوصف، فتقول‏:‏ لا، ‏{‏وتقول‏}‏ طاعة لله ومحبة في عذاب أعدائه وإخباراً بأنها لم تمتلئ لأن النار من شأنها أنها كلما زيدت حطباً زادت لهباً‏:‏ ‏{‏هل من مزيد *‏}‏ أي زيادة أو شيء من العصاة إزادة، سواء كان كثيراً أو قليلاً، فإني أسع ما يؤتى به إليّ ولا تزال كذلك كما ورد في الحديث «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع الجبار فيها قدمه» أي يضربها من جبروته بسوط إهانة فينزوي بعضها إلى بعض وتقول‏:‏ قط قط وعزتك، ثم يستمرون بين دولتي الحر والزمهرير، وقد جعل الله سبحانه لذلك آية في هذه الدار باختلاف الزمان في الحر والبرد، فإذا أفرط الحر جاءت رحمته تعالى بالبرد وبالماء من السماء فامتزجا معاً فكان التوسط، وإذا أفرط البرد جاءت رحمته بالحر بواسطة الشمس، فامتزج الموجدان، فكان له توسط، وكل ذلك له دوائر موزونة بأقساط مقسطة معلومة بتقدير العزيز العليم- ذكر ذلك ابن برجان‏.‏

ولما ذكر النار وقدمها لأن المقام للإنذار، أتبعها دار الأبرار، فقال ساراً لهم بإسقاط مؤنة السير وطيّ شقة البعد‏:‏ ‏{‏وأزلفت‏}‏ أي قربت بأيسر أمر مع الدرجات والحياض الممتلئة ‏{‏الجنة للمتقين‏}‏ أي العريقين في هذا الوصف، فإذا رأوها تسابقوا إليها وتركوا ما كانوا فيه من الموقف من منابر النور وكثبان المسك ونحو هذا، وأما غيرهم من أهل الإيمان فقد يكون لهم على غير هذا الوصف، فيساق إليها الذين اتقوا كما مضى في الزمر‏.‏

ولما كان القرب أمراً نسبياً أكده بقوله‏:‏ ‏{‏غير بعيد *‏}‏ أي إزلافاً لا يصح وصفه ببعد‏.‏

ولما كان التقريب قد لا يدري الناظر ما سببه، قال ساراً لهم‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ أي الإزلاف والذي ترونه من كل ما يسركم ‏{‏ما‏}‏ أي الأمر الذي ‏{‏توعدون‏}‏ أي وقع الوعد لكم به في الدنيا، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية، وعبر عن الإزلاف بالماضي تحقيقاً لأمره وتصويراً لحضوره الآن ليكون المضارع من الوعد في أحكم مواضعه، وأبهم الأمر لأنه أكثر تشويقاً، والتعيين بعد الإبهام ألذ، فلذلك قال بياناً للمتقين، معيداً للجار لما وقع بينه وبين المبدل منه من الجملة الاعتراضية جواباً لمن كأنه قال‏:‏ لمن هذا الوعد‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لكل أواب‏}‏ أي رجاع إلى الاستقامة بتقوى القلب إن حصل في ظاهره عوج، فنبه بذلك على أنه من فضله لم يشترط في صحة وصفه بالتقوى دوام الاستقامة ‏{‏حفيظ‏}‏ أي مبالغ في حفظ الحدود وسار العهود بدوام الاستقامة والرجوع بعد الزلة، ثم أبدل من «كل» تتميماً لبيان المتقين قوله‏:‏ ‏{‏من خشي‏}‏ ولم يعد الجارّ لأنه لا اعتراض قبله كالأول، ونبه على كثرة خشيته بقوله‏:‏ ‏{‏الرحمن‏}‏ لأنه إذا خاف مع استحضار الرحمة العامة للمطيع والعاصي كان خوفه مع استحضار غيرها أولى، وقال القشيري‏:‏ التعبير بذلك للإشارة إلى أنها خشية تكون مقرونة بالأنس يعني الرجاء كما هو المشروع، قال‏:‏ ولذلك لم يقل ‏{‏الجبار‏}‏ أو ‏{‏القهار‏}‏ قال‏:‏ ويقال‏:‏ الخشية ألطف من الخوف، فكأنها قريبة من الهيبة ‏{‏بالغيب‏}‏ أي مصاحباً له من غير أن يطلب آية أو أمراً يصير به إلى حد المكاشفة، بل استغنى بالبراهين القاطعة التي منها أنه مربوب، فلا بد له من رب، وهو أيضاً بيان لبليغ خشيته‏.‏

ولما كان النافع من الطاعة الدائم إلى الموت، قال‏:‏ ‏{‏وجاء‏}‏ أي بعد الموت ‏{‏بقلب منيب *‏}‏ أي راجع إلى الله تعالى بوازع العلم، ولم يقل‏:‏ بنفس، لطفاً بالعصاة لأنهم وإن قصرت نفوسهم لم يكن لها صدق القدم فلهم الأسف بقلوبهم، وصدق الندم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ‏(‏34‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ‏(‏35‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏36‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ‏(‏37‏)‏‏}‏

ولما كان الإخبار بكونها لهم وإن كان أمراً ساراً لا يقتضي دخولها في ذلك الوقت، زاد سرورهم بالإذن بقوله معبراً بضمير الجميع بياناً لأن المراد من «من» جميع المتقين‏:‏ ‏{‏ادخلوها‏}‏ أي يقال لهم‏:‏ ادخلوا الجنة‏.‏ ولما كان المراد استقبالهم بالإلذاذ بالبشارة قال‏:‏ ‏{‏بسلام‏}‏ أي مصاحبين للسلامة من كل يمكن أن يخاف، فأنتج ذلك قوله إنهاء للسرور إلى غاية لا توصف‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي اليوم العظيم جداً ‏{‏يوم‏}‏ ابتداء أو تقرير ‏{‏الخلود *‏}‏ أي الإقامة التي لا آخر لها ولا نفاذ لشيء من لذاتها أصلاً، ولذلك وصل به قوله جواباً لمن كأنه قال‏:‏ على أي وجه خلودهم‏؟‏‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ بظواهرهم وبواطنهم ‏{‏ما يشاؤون‏}‏ أي يتجدد مشيئتهم أو تمكن مشيئتهم له ‏{‏فيها‏}‏ أي الجنة ‏{‏ولدينا‏}‏ أي عندنا من الأمور التي في غاية الغرابة عندهم وإن كان كل ما عندهم مستغرباً ‏{‏مزيد *‏}‏ أي مما لا يدخل تحت أوهامهم يشاؤه، فإن سياق الامتنان يدل على أن تنوينه للتعظيم، والتعبير بلدى يؤكد ذلك تأكيداً يناسبها بأن يكونوا كل لحظة في زيادة على أمانيهم عكس ما كانوا في الدنيا، وبذلك تزداد علومهم، فمقدورات الله لا تنحصر، لأن معلوماته لا تنتهي‏.‏

ولما ذكر سبحانه أول السورة تكذيبهم بالقدرة على اعترافهم بما يكذبهم في ذلك التكذيب، ثم سلى وهدد بتكذيب الأمم السابقة، وذكر قدرته عليهم، وأتبعه الدلالة على كمال قدرته إلى أن ختم بالإشارة إلى أن قدرته لا نهاية لها، ولا تحصر بحدّ ولا تحصى بعدّ، رداً على أهل العناد وبدعة الاتحاد في قولهم «ليس في الإمكان أبدع مما كان» عطف على ما قدرته بعد ‏{‏فحق وعيد‏}‏ من إهلاك تلك الأمم مما هو أعم منه بشموله جميع الزمان الماضي وأدل على شمول القدرة، فقال‏:‏ ‏{‏وكم أهلكنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة‏.‏ ولما كان المراد تعميم الإهلاك في جميع الأزمان لجميع الأمم، نزع الجار بياناً لإحاطة القدرة فقال‏:‏ ‏{‏قبلهم‏}‏ وزاد في دلالة التعميم فأثبته في قوله‏:‏ ‏{‏من قرن‏}‏ أي جيل هم في غاية القوة، وزاد في بيان القوة فقال‏:‏ ‏{‏هم‏}‏ أي أولئك القرون بظواهرهم وبواطنهم ‏{‏أشد منهم‏}‏ أي من قريش ‏{‏بطشاً‏}‏ أي قوة وأخذاً لما يريدونه بالعنف والسطوة والشدّة، وحذف الجار هنا يدل على أن كل من كان قبل قريش كانوا أقوى منهم، وإثباته في ص يدل على أن المذكورين بالإهلاك هناك مع الاتصاف بالنداء المذكور بعض المهلكين لا كلهم‏.‏ ولما أخبر سبحانه بأشديتهم سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فنقبوا‏}‏ أي أوقعوا النقب ‏{‏في البلاد‏}‏ بأن فتحو فيها الأبواب الحسية والمعنوية وخرقوا في أرجائها ما لم يقدر غيرهم عليه وبالغوا في السير في النقاب، وهي طرق الجبال والطرق الضيقة فضلاً عن الواسعة وما في السهول، بعقولهم الواسعة وآرائهم النافذة وطبائعهم القوية، وبحثوا مع ذلك عن الأخبار، وأخبروا غيرهم بما لم يصل إليهم، وكان كل منهم نقاباً في ذلك أي علامة فيه فصارت له به مناقب أو مفاخر‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ ولم يسلموا مع كثربة تنقيبهم وشدته من إهلاكنا بغوائل الزمان ونوازل الحدثان، توجه سؤال كل سامع على ما في ذلك من العجائب والشدة والهول والمخاوف سؤال تنبيه للذاهل الغافل، وتقريع وتبكيت للمعاند الجاهل، بقوله‏:‏ ‏{‏هل من محيص *‏}‏ أي معدل ومحيد ومهرب وإن دق، من قضائنا ليكون لهؤلاء وجه ما في رد أمرنا‏.‏

ولما ذكرنا هنا من المواعظ ما أرقص الجماد، فكيف بمن يدعي أنه من رؤوس النقاد، أنتج قوله مؤكداً لأجل إنكار الجاحد وعناد المعاند‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر البديع من العظات التي صرفناها هنا على ما ترون من الأساليب العجيبة والطرق الغريبة في الإهلاك وغيره ‏{‏لذكرى‏}‏ أي تذكيراً عظيماً جداً‏.‏ ولما كان المتذكر بمصارع المهلكين تارة بأن يكون حاضراً فيرى مصارعهم حال الإيقاع بهم أو يرى آثارهم بعد ذلك، وتارة يخبر عنها، قال بادئاً بالرائي لأنه أجدر بالتذكير‏:‏ ‏{‏لمن كان‏}‏ أي كوناً عظيماً ‏{‏له قلب‏}‏ هو في غاية العظمة والنورانية إن رأى شيئاً من ذلك فهو بحيث يفهم ما يراه ويعتز به، ومن لم يكن كذلك فلا قلب له لأن قلبه لما كان غير نافع كان عدماً‏.‏

ولما كان قد بدأ بالناظر لأنه أولى بالاعتبار وأقرب إلى الادكار، ثنى بمن نقلت إليه الأخبار فقال‏:‏ ‏{‏أو ألقى‏}‏ أي إلقاء عظيماً بغاية إصغائه حتى كأنه يرمي بشيء ثقيل من علو إلى سفل ‏{‏السمع‏}‏ أي الكامل الذي قد جرده عن الشواغل من الحظوظ وغيرها إذا سمع ما غاب عنه ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أنه في حال إلقائه ‏{‏شهيد *‏}‏ أي حاضر بكليته، فهو في غاية ما يكون من تصويب الفكر وجمع الخاطر، فلا يغيب عنه شيء مما تلي عليه وألقي إليه، فيتذكر بما ذكرناه به عن قدرتنا من الجزئيات ما أنتجه من القدرة على كل شيء، ورأى مجد القرآن فعلم أنه كلام الله فسمعه منه فصدق الرسول، وقبل كل ما يخبر به، ومن سمع شيئاً ولم يحضر له ذهنه فهو غائب، فالأول العالم بالقوة وهو المجبول على الاستعداد الكامل فهو بحيث لا يحتاج إلى غير التدبر لما عنده من الكمال المهيأ بفهم ما يذكر به القرآن، والثاني القاصر بما عنده من كثافة الطبع فهو بحيث يحتاج إلى التعليم فيتذكر بشرط أن يقبل بكليته، ويزيل الموانع كلها، فلذلك حسن جداً موقع «أو» المقسمة وعلم منه عظيم شرف القرآن في أنه مبشر للكامل والناقص، ليس منه مانع غير الإعراض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 43‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ‏(‏38‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ‏(‏39‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ‏(‏40‏)‏ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ‏(‏42‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ‏(‏43‏)‏‏}‏

ولما دل على تمام علمه وشمول قدرته بخلق الإنسان إثر ما ذكره من جميع الأكوان، ثم بإعدامه لأصناف الإنسان في كل زمان، ذكر بخلق ما أكبر منه في المقدار والإنسان بعضه على وجه آخر، فقال عاطفاً على ‏{‏ولقد خلقنا الانسان‏}‏ وأكد تنبيهاً لمنكري البعث وتبكيتاً، وافتتحه بحرف التوقع لأن من ذكر بخلق شيء توقع الإخبار عما هو أكبر منه‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر قدرها ولا يطاق حصرها ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ على ما هما عليه من الكبر وكثرة المنافع ‏{‏وما بينهما‏}‏ من الأمور التي لا ينتظم الأمر على قاعدة الأسباب والمسببات بدونها ‏{‏في ستة أيام‏}‏ الأرض في يومين، ومنافعها في يومين، والسماوات في يومين، ولو شاء لكان ذلك في أقل من لمح البصر، ولكنه سن لنا التأني بذلك ‏{‏وما مسنا‏}‏ لأجل ما لنا من العظمة ‏{‏من لغوب *‏}‏ أي إعياء فإنه لو كان لاقتضى ضعفاً فاقتضى فساداً، فكان من ذلك شيء على غير ما أردناه، فكان تصرفنا فيه غير تصرفنا في الباقي، وأنتم تشاهدون الأمر في الكل على حد سواء من نفوذ الأمر وتمام التصرف، من اللغب وهو الإعياء، والريش اللغاب وهو الفاسد‏.‏

ولما دل سبحانه على شمول العلم وإحاطة القدرة، وكشف فيهما الأمر أتم كشف، كان علم الحبيب القادر بما يفعل العدو أعظم نذارة للعدو وبشارة للولي، سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فاصبر على ما‏}‏ أي جميع الذي ‏{‏يقولون‏}‏ أي الكفرة وغيرهم‏.‏ ولما كانت أقوالهم لا تليق بالجناب الأقدس، أمر سبحانه بما يفيد أن ذلك بإرادته وأنه موجب لتنزيهه، وكماله، لأنه قهر قائله على قوله، ولو كان الأمر بإرادة ذلك القائل استقلالاً لكان ذلك في غاية البعد عنه، لأنه موجب للهلاك، فقال‏:‏ ‏{‏وسبح‏}‏ أي أوقع التنزيه عن كل شائبة نقص متلبساً ‏{‏بحمد ربك‏}‏ أي بإثبات الإحاطة بجميع صفات الكمال للسيد المدبر المحسن إليك بجميع هذه البراهين التي خصك بها تفضيلاً لك على جميع الخلق في جميع ما ‏{‏قبل طلوع الشمس‏}‏ بصلاة الصبح، وما يليق به من التسبيح غيرها ‏{‏وقبل الغروب‏}‏ بصلاة العصر والظهر كذلك فالعصر أصل لذلك الوقت والظهر تبع لها‏.‏

ولما ذكر ما هو أدل على الحب في المعبود لأنه وقت الانتشار إلى الأمور الضرورية التي بها القوام والرجوع لقصد الراحة الجسدية بالأكل والشرب واللعب والاجتماع بعد الانتشار والانضمام مع ما في الوقتين من الدلالة الظاهرة على طي الخلق ثم نشرهم، أتبعه ما يكون وقت السكون المراد به الراحة بلذيذ الاضطجاع والمنام فقال‏:‏ ‏{‏ومن الليل‏}‏ أي في بعض أقواته ‏{‏فسبحه‏}‏ بصلاتي المغرب والعشاء وقيام الليل لأن الليل وقت الخلوات وهي ألذ المناجاة‏.‏

ولما ذكر الفرائض التي لا مندوحة عنها على وجه يشمل النوافل من الصلاة وغيرها، أتبعها النوافل المقيدة بها فقال‏:‏ ‏{‏وأدبار السجود *‏}‏ أي الذي هو أكل بابه وهو صلاة الفرض بما يصلى بعدها من الرواتب والتسبيح بالقول أيضاً، قال الرازي‏:‏ واعلم أن ثواب الكلمات بقدرة صدورها عن جنان المعرفة والحكمة وأن تكون عين قلبه تدور دوران لسانه ويلاحظ حقائقها ومعانيها، فالتسبيح تنزيه من كل ما يتصور في الوهم أو يرتسم في الخيال أو ينطبع في الحواس أو يدور في الهواجس، والحمد يكشف عن المنة وصنع الصنائع وأنه المتفرد بالنعم‏.‏ انتهى‏.‏ ومعناه أن هذا الحمد هو الحقيقة، فإذا انطبقت في الجنان قامت باللسان، وتصورت بالأركان، وحمل على الصلاة لأنها أفضل العبادات، وهي جامعة بما فيها من الأقوال والأفعال لوجهي الذكر‏:‏ التنزيه والتحميد، وهاتان الصلاتان المصدر بهما أفضل الصلوات فهما أعظم ما وقع التسبيح بالحمد، والمعنى‏.‏ والله أعلم‏.‏ أن الاشتغال استمطار من المحمود المسبح للنصر على المكذبين، وأن الصلاة أعظم ترياق للنصر وإزالة الهم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة‏.‏

ولما سلاه سبحانه عما يسمع منهم من التكذيب وغيره من الأذى بالإقبال على عليّ حضرته والانتظار لنصرته، أتبعه تعزية الإشارة فيها أظهر بما صوره يوم مصيبتهم وقربه حتى أنه يسمع في وقت نزول هذه الآية ما فيه لهم من المثلات وقوارع المصيبات، تحذيراً لهم وبشرى لأوليائه بتمام تأييده عليهم ونصره لهم في الدنيا والآخرة فقال‏:‏ ‏{‏واستمع‏}‏ أي اسمع بتعمدك للسمع بغاية جهدك بإصغاء سمعك وإقبال قلبك بعد تسبيحك بالحمد ما يقال لهم ‏{‏يوم يناد المناد‏}‏ لهم في الدنيا يوم بدر أول الأيام التي أظهر الله فيها لأوليائه مجده بالانتقام من أعدائه، وفي الآخرة يوم القيامة في صورة النفخة الثانية وما بعده‏.‏

ولما كان المراد إظهار العظمة بتصوير تمام القدرة، وكان ذلك يتحقق بإسماع البعيد من محل المنادي كما يسمع القريب سواء، وكان القرب ملزوماً للسماع، قال مصوراً لذلك‏:‏ ‏{‏من مكان‏}‏ هو صخرة بيت المقدس ‏{‏قريب‏}‏ أي يسمع الصوت من بعد كما يسمعه من قرب، يكونون في البقاع سواء لا تفاوت بينهم أصلاً‏.‏

ولما عظم هذا المقام بما كساه من ثوب الإجمال أبدل منه إيضاحاً وزيادة في التعظيم قوله‏:‏ ‏{‏يوم يسمعون‏}‏ أي الذين ينادون ‏{‏الصيحة‏}‏ أي صيحة أصمتهم المستنفر لهم إلى بدر في الدنيا، فكانت صيحة قاضية بصممهم عن جميع تصرفاتهم، وصيحة النفخة الثانية في الصورة في الآخرة فهما نفختا حشر إلى القضاء بين المحق والمبطل ‏{‏بالحق‏}‏ أي لأمر الثابت الذي كانوا يسمونه سحراً، ويعدونه خيالاً، فيعلمون حينئذ أن الواقع قد يطابقه، فكان حقاً فإنه قد طابقه الواقع، فكان الإخبار به صدقاً‏.‏

ولما عظمه سبحانه باجمال بعد إجمال، إشارة إلى أن ما فيه من شديد الأهوال، يطول شرحه بالمقال، زاده تعظيماً بما أنتجه الكلام فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي اليوم العظيم الذي يظهر به المجد ويعلو بضعفاء المؤمنين المجد ‏{‏يوم الخروج‏}‏ أي الذي لا خروج أعظم منه وهو خروجهم من بيوتهم في الدنيا إلى مصارعهم ببدر، ومن قبورهم من الأرض التي خلقوا منها إلى مقامعهم في النار‏.‏

ولما بنيت دعائم القدرة ودقت بشائر النصرة وختم بما يصدق على البعث الذي هو الإحياء الأعظم دالاً بما هو مشاهد من أفعاله، وأكده لإنكارهم البعث، فقال‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏نحن‏}‏ خاصة ‏{‏نحيي ونميت‏}‏ تجدد ذلك شيئاً بعد شيء سنة مستقرة وعادة مستمرة كما تشاهدونه، فقد كان منا بالإحياء الأول البدء ‏{‏وإلينا‏}‏ خاصاً بالإماتة ثم الإحياء ‏{‏المصير *‏}‏ أي الصيرورة ومكانها وزمانها بأن نحيي جميع من أمتناه يوم البعث ونحشرهم إلى محل الفصل، فنحكم بينهم وليس المعاد بأصعب من المبدأ، فمن أقر به وأنكر البعث كان معانداً أو مجنوناً قطعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ‏(‏44‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

ولما تحقق بذلك أمر البعث غاية التحقق، صور خروجهم فيه فقال معلقاً بما ختم به الابتداء مما قبله زيادة في تفخيمه وتعظيمه وتبجيله‏:‏ ‏{‏يوم تشقق الأرض‏}‏ وعبر بفعل المطاوعة لاقتضاء الحال له، وحذف تاء المطاوعة إشارة إلى سهولة الفعل وسرعته ‏{‏عنهم‏}‏ أي مجاوزة لهم بعد أن كانوا في بطنها فيخرجون منها أحياء كما كانوا على ظهرها أحياء، حال كونهم ‏{‏سراعاً‏}‏ إلى إجابة مناديها، وأشا إلى عظمه بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الإخراج العظيم جداً ‏{‏حشر‏}‏ أي جمع بكره، وزاد في بيان عظمة هذا الأمر بدلالته على اختصاصه بتقديم الجار فقال‏:‏ ‏{‏علينا‏}‏ أي خاصة ‏{‏يسير *‏}‏ فكيف يتوقف عاقل فيه فضلاً عن أن ينكره، وأما غيرنا فلا يمكنه ذلك بوجه‏.‏ انتهى‏.‏

ولما أقام سبحانه الأدلة على تمام قدرته وشمول علمه وختم بسهولته عليه واختصاصه به، وصل تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بتهديدهم على تكذيبهم بالعلم الذي هو أعظم التهديد فقال‏:‏ ‏{‏نحن‏}‏ أي لا غيرنا ولا هم أنفسهم ‏{‏أعلم‏}‏ أي من كل من يتوهم فيه العلم ‏{‏بما يقولون‏}‏ أي في الحال والاستقبال من التكذيب بالبعث وغيره مع إقرارهم بقدرتنا‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فنحن قادرون على ردهم عنه بما لنا من العلم المحيط وأنت لهم منذير تنذرهم وبال ذلك، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما أنت عليهم‏}‏ ولما أفاد حرف الاستعلاء القهر والغلبة صرح به مؤكداً في النفي فقال‏:‏ ‏{‏بجبار‏}‏ أي متكبر قهار عات تردهم قهراً عما تكره منهم من الأقوال والأفعال، إنما أنت منذر، ولما نفى عنه الجبروت، أثبت لهم ما أفهمه واو العطف من النذارة كما قدرته قبله، فقال مسبباً عنه معبراً بالتذكير الذي يكون عن نسيان لأن كل ما في القرآن من وعظ إذا تأمله الإنسان وجده شاهداً في نفسه أو فيما يعرفه من الآفاق ‏{‏فذكر‏}‏ أي بطريق البشارة والنذارة ‏{‏بالقرآن‏}‏ أي الجامع بمجده لكل خير المحيط كل صلاح ‏{‏من يخاف وعيد *‏}‏ أي يمكن خوفه، وهو كل عاقل، ولكنه ساقه هكذا إعلاماً بأن الذي يخاف بالفعل فيكشف الحال عن إسلامه هو المقصود بالذات، وغيره إنما يقصد لإقامة الحجة عليه لا لدده ولا يؤسف عليه ولا يتأثر بتكذيبه بل يعتقد أنه عدم لا تضر عداوته ولا تنفع ولايته، وما آذى إلا نفسه وكل من والاه في الدنيا والآخرة، وهذا هو المجد للقرآن ولمن أنزله ولمن أتى به عنه بتمام قدرة من هو صفته وشمول علمه، فقد انعطف هذا الآخر على ذلك الأول أشد انعطاف، والتفت فروعه بأصله أتم التفاف، فاعترفت به أولو براعة وأهل الإنصاف والاتصاف بالتقدم في كل صناعة بالسبق الذي لا يمكن لحاقه أيّ اعتراف‏.‏ والله الهادي للصواب‏.‏

سورة الذاريات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ‏(‏1‏)‏ فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ‏(‏2‏)‏ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ‏(‏5‏)‏ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ‏(‏6‏)‏ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

لما ختم سبحانه ق بالتذكير بالوعيد، افتتح هذه بالقسم البالغ على صدقه، فقال مناسباً بين القسم والمقسم عليه‏:‏ ‏{‏والذاريات‏}‏ أي الرياح التي من شأنها الإطارة والرمي والتفريق والإذهاب، وأكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ذرواً *‏}‏ أي بما تصرفها فيه الملائكة، قال الأصبهاني‏:‏ الرياح تحت أجنحة الكروبيين حملة العرش، فتهيج من ثم فتقع بعجلة الشمس ثم تهيج عن عجلة الشمس فتقع برؤوس الجبال، ثم من رؤوس الجبال تقع في البر، فأما الشمال فإنها تمر تحت عدن فتأخذ من عرف طيبها فتمر على أرواح الصديقين، ثم تأخذ حدها من كرسي بنات نعش إلى مغرب الشمس، وتأتي الدبور حدها من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل، وتأتي الجنوب حدها من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس، وتأتي الصبا حدها من مطلع الشمس إلى كرسي بنات نعش، فلا تدخل هذه في حد هذه ولا هذه في حد هذه‏.‏

ولما كانت غاية الذرو التهيئة للحمل، قال مسبباً ومعقباً‏:‏ ‏{‏فالحاملات‏}‏ أي من السحب التي فرقت الريح أصلها وهو الأبخرة، وأطارته في الجو في جهة العلو ثم جمعته، فانعقد سحاباً فبسطه مع الالتئام فحمله الله ما أوجد فيه من مراده من الماء والصواعق وغيرها ‏{‏وقراً *‏}‏ أي حملاً ثقيلاً، وقد كان قبل ذلك لا يرى شيء منه ولا من محموله، فتحققوا قدرة الله على كل ما يريد وإن لم تروا أسبابه، ولا يغرنكم بالله الغرور‏.‏

ولما كان الحمل إنما هو الوضع في الأماكن التي يراد ضرها أو نفعها، وكان سير الغمام بعد الحمل في ساحة الجو وباحة الأفق من غير ممسك يرى أدل على القدرة، ولا سيما إذا كان مع الجري الذي يضرب به لسرعته المثل، وكذا جري السفن في باحة البحر بعد ثقلها بالوسق قال‏:‏ ‏{‏فالجاريات يسراً *‏}‏ أي جرياً ذا سهولة‏.‏

ولما كان في غاية الدلالة على تمام القدرة بغريق محمولها في الأراضي المجتاحة ولا سيما إن تباعدت أماكن صبه ومواطن سكبه، وكان ذلك التفريق هو غاية الجري المترتب على الحمل المترتب على الذرو، قال مسبباً معقباً مشيراً بالتفعيل، إلى غرابة فصلها لقطراتها وبداعة تفريقها لرحمتها من عذابها، وغير ذلك من أحوال الجاريات وتصريف الساريات‏:‏ ‏{‏فالمقسمات‏}‏ أي من السحب بما تصرفها فيه الملائكة عليهم السلام، وكذا السفن بما يصرفها الله به من الرياح اللينة أو العاصفة من سلامة وعطب وسرعة وإبطاء، وكذا غيرهما من كل أمر تصرفه الملائكة بين العباد وتقسمه‏.‏

ولما كان المحمول مختلفاً كما تقدم، قال جامعاً لذلك‏:‏ ‏{‏أمراً *‏}‏ أي من الرحمة أو العذاب، قال الرازي في اللوامع‏:‏ وهذه أقسام يقسم الله بها ولا يقسم بها الخلق لأن قسم الخلق استشهاد على صحة قولهم بمن يعلم السر كالعلانية وهو الله تعالى، وقسم الخالق إرادة تأكيد الخبر في نفوسهم فيقسم ببعض بدائع خلقه على وجه يوجب الاعتبار ويدل على توحيده، فالرياح بهبوبها وسكونها لتأليف السحاب وتذرية الطعام واختلاف الهواء وعصوفها مرة ولينها أخرى والسحاب بنحو وقوفها مثقلات بالماء من غير عماد وصرفها في وقت الغنى عنها بما لو دامت لأهلكت، ولو انقطعت لم يقدر أحد على قطرة منها، وبتفريق المطر وإلا هلك الحرث والنسل، والسفن بتسخير البحر لجريانها وتقدير الريح لها بما لو زاد لغرق، ولو ركد لأهلك، والملائكة تقسم الأمور بأمر ربها، كل ذلك دليل على وجود الصانع الحكيم، والفاطر العليم، القادر الماجد الكريم‏.‏

ولما كانوا يكذبون بالوعيد، أكد الجواب بعد التأكيد بنفس القسم فقال‏:‏ ‏{‏إنما‏}‏ أي الذي ‏{‏توعدون‏}‏ أي من الوعد للطائع والوعيد للعاصي، وإن لم تروا أسبابه، ولما كان ما توعدوا به لتحقق وقوعه وقربه كأنه موجود يخاطبهم عن نفسه، عبر عن المصدر باسم الفاعل فقال‏:‏ ‏{‏لصادق *‏}‏ أي مطابق الإخبار به للواقع، وسترون مطابقته له إذا وقع، وتعلمون أن ذلك الواقع حق ثابت لا خيال لمطابقته للخبر، قال ابن برجان‏:‏ واعلم أن الله عز وجل ما أقسم بقسم إلا مطابقاً معناه لمعان في المقسم من أجله بسراج منير يهدي به الله تعالى من يشاء، وإنما يعمي عن رؤية ذلك ظواهر إشخاص للمحسوسات، ويصم عن إسماع ندائها ضوضاء المشاهدات، ولولا ذلك لنودوا بها من مكان قريب، وقال البيضاوي‏:‏ كأنه استدل باقتداره على هذه الأشياء العجيبة المخالفة لمقتضى الطبيعة على اقتداره على البعث‏.‏

ولما كان أجل وعيدهم وما يتعلق بالجزاء يوم القيامة وكانوا ينكرونه، قال‏:‏ ‏{‏وإن الدين‏}‏ أي المجازاة لكل أحد بما كسب يوم البعث، والشرع الذي أرسلت به هذا النبي الكريم ‏{‏لواقع *‏}‏ لا بد منه وإن أنكرتم ذلك، فيظهر دينه على الدين كله كما وعد بذلك، ثم نقيم الناس كلهم للحساب‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه‏:‏ لما ذكر سبحانه المواعيد الأخروية في سورة ق وعظيم تلك الأحوال من لدن قوله ‏{‏وجاءت سكرة الموت بالحق‏}‏ إلى آخر السورة، أتبع سبحانه ذلك بالقسم على وقوعه وصدقه فقال‏:‏ ‏{‏والذاريات ذرواً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع‏}‏ والدين الجزاء، أي أنهم سيجازون على ما كان منهم ويوفون قسط أعمالهم ‏{‏فلا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون‏}‏ ‏{‏إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً‏}‏‏.‏ ولما أقسم الله على صدق وعده ووقوع الجزاء، عقب ذلك بتكذيبهم بالجزاء وازدرائهم فقال ‏{‏يسألون أيان يوم الدين‏}‏ ثم ذكر تعالى حال الفريقين وانتهاء الطريقين إلى قوله‏:‏ ‏{‏وفي الأرض آيات للموقنين‏}‏ فوبخ تعالى من لم يعمل فكره ولا بسط نظره فيما أودع سبحانه في العالم من العجائب، وأعقب بذكر إشارات إلى أحوال الأمم وما أعقبهم تكذيبهم، وكل هذا تنبيه لبسط النظر إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومن كل شيء خلقنا‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون‏}‏ أي إن هذا دأبهم وعادتهم حتى كأنهم تعاهدوا عليه وألقاء بعضهم إلى بعض فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تواصوا به أم هم قوم طاغون‏}‏ أي عجباً لهم في جريهم على التكذيب والفساد في مضمار واحد، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل هم قوم طاغون‏}‏ أي أن علة تكذيبهم هي التي اتحدت فاتحد معلولها، والعلة طغيانهم وإظلام قلوبهم بما سبق ‏{‏ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها‏}‏ ثم زاد نبيه عليه السلام أشياء مما ورد على طريقة تخييره عليه السلام في أمرهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتول عنهم فما أنت بملوم‏}‏ ثم أشار تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين‏}‏ إلى أن إحراز أجره عليه السلام إنما هو في التذكار والدعاء إلى الله تعالى، ثم ينفع الله بذلك من سبقت له السعادة ‏{‏إنما يستجيب الذين يسمعون‏}‏ ثم أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بأن تكذيبه سينالهم قسط ونصيب مما نال غيرهم من ارتكب مرتكبهم، وسلك مسلكهم، فقال تعالى ‏{‏وإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم‏}‏ إلى آخر السورة- انتهى‏.‏

ولما أخبر سبحانه عن ثبات خبره، أتبعه الإخبار عن وهي كلامهم، فقال مقسماً عليه لمبالغتهم في تأكيد مضامينه مع التناقض بفعله الجميل وصنعه الجليل، إشارة إلى أنهم لم يتخلقوا من أخلاقه الحسنى بقول ولا فعل‏:‏ ‏{‏والسماء ذات الحبك *‏}‏ أي الآيات المحتبكة بطرائق النجوم المحكمة، الحسنة الصنعة، الجيدة الرصف والزينة، حتى كأنها منسوجة، الجميلة الصنعة الجليلة الآثار، الجامعة بين القطع والاختلاط والاتفاق والاختلاف، وأصل الحبك الإحكام في امتداد واطراد- قاله الرازي في اللوامع‏.‏ ‏{‏إنكم‏}‏ يا معشر قريش ‏{‏لفي قول‏}‏ محيط بكم في أمر القرآن والآتي به وجميع أمر دينكم وغيره مما تريدون به إبطال الدين الحق ‏{‏مختلف *‏}‏ كاختلاف طرائق السماء التي لا تكاد تنتظم، ولا يعرف أولها من آخرها، واختلاف هذه الأشياء المقسم بها من أول السورة واختلاف غاياتها لكنه مع ذلك متدافع، وإن كنتم تجتهدون في تزيينه وتقريبه للأفهام وتحسينه فإنه لا يكاد إذا عرضه الناقد على الفكر النافذ ينضبط بضابط ولا يرتبط برابط، بل تارة تقولون‏:‏ هذا شعر فيلزمكم وصفه بما تصفون به الشعر من الاتساق بالوزن المجرد والروي المتحد، والعذوبة والرشاقة، وتارة تقولون‏:‏ هذا سحر فيلزمكم مع الإقرار بالعجز عنه أنه لا حقائق له والواقع أنه لا يتأمله ذو فهم إلا رأى حقائقه أثبت من الجبال، وتارة تقولون‏:‏ أضغاث أحلام، فيلزمكم أنه لا ينضبط بضابط، ولا يكون له مفهوم يحصل، ولا يعجز أحد عن تلفيق مثله، فقد أبطلتم قولكم‏:‏ إنه شعر وإنه سحر‏.‏

وتارة تقولون‏:‏ إنه كهانة فيلزمكم أن تعتقدوا منه ما تعتقدون في أقوال الكهان من الإخبار بالمغيبات وإظهار الخبء وفصل الحكم، فأبطلتم ما مضى من قولكم أضغاث أحلام وسحر وشعر، وتارة تقولون، إنه جنون، فقد نقضتم جميع أقوالكم الماضية وناديتم على أنفسكم بالمباهتة، تقولون في الآتي به‏:‏ إنه شاعر وساحر ومجنون وكاهن وكاذب، وكل قول منها ينقض الآخر، وأنتم تدعون أنكم أصدق الناس وأبعدهم عن عار الكذب، وأنكم أعقل الناس وأنصفهم، فقد تباعد أولاً ما بين أقوالكم، ثم ما بينها وبين أفعالكم، فكان اختلاف طرائق النجوم دالاًّ على مانع مختار تام العلم كامل القدرة، وكذا اختلاف قولكم على هذا الوجه مع ما لكم من العقول دالّ على قاهر لكم على ذلك، فهما آيتان في الآفاق وفي أنفسكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 18‏]‏

‏{‏يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ‏(‏9‏)‏ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ‏(‏11‏)‏ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ‏(‏13‏)‏ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏14‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏15‏)‏ آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ‏(‏16‏)‏ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ‏(‏17‏)‏ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

ولما كان هذا الاختلاف مما لا يكاد يصدق لأنه لا يقع فيه عاقل، بين سببه بأنهم مغلوبون عليه بقهر يد القدرة فقال‏:‏ ‏{‏يؤفك‏}‏ أي يصرف بأيسر أمر وأسهله عن سنن الاستقامة، ويقلب من وجهه لقفاه ‏{‏عنه‏}‏ أي يصدر صرفه عن هذا القول مجازاً لما يلزمه من عاره، فهو لأجل ذلك يقوله ‏{‏من أفك *‏}‏ أي قلبه قلب قاهر أي تبين بهذا الصرف الذي هو أعظم الصرف أنه حكم في الأزل حكماً ثابتاً جامعاً، فصار لا يصد عنه قول ولا فعل إلا كان مقلوباً وجهه إلى قفاه لا يمكن أن يأتي منه بشيء على وجهه، فكأنه لا مأفوك سواه لشدة افكه وعجيب أمره‏.‏

ولما كان الكذب الإخبار بما لا حقيقة له وتعمد الافتراء، وكان الخرص الكذب والافتراء والاختلاف وكل قول بالظن، قال معلماً بما لهم على قولهم هذا‏:‏ قتلوا أو قتلتم- هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف الذي استحقوه بقولهم‏:‏ ‏{‏قتل الخراصون *‏}‏ أي حصل بأيسر أمر قتل الكذابين ولا محالة من كل قاتل، والمتقولين بالظن المنقطعين للكلام من أصل لا يصلح للخرص وهو القطع، وهم الذين يقولون عن غير سند من كتاب أو سنة أو أثارة من علم، وهو دعاء أو خبر لأنه مجاب‏:‏ ‏{‏الذين هم‏}‏ خاصة ‏{‏في غمرة‏}‏ أي أعماق من العمى والضلال، غارقون في سكرهم وجهلهم الذي غمرهم، ولذلك هم مضطربون اضطراب من هو يمشي في معظم البحر فهو لا يكاد ينتظم له أمر من قول ولا فعل ولا حال ‏{‏ساهون *‏}‏ أي عريقون في السهو وهو النسيان والغفلة والحيرة وذهاب القلب إلى غيره ما يهمه، ففاعل ذلك ذو ألوان متخالفة من هول ما هو فيه وشدة كربه‏.‏

ولما حكم بسهوهم، دل عليه بقوله‏:‏ ‏{‏يسئلون‏}‏ أي حيناً بعد حين على سبيل الاستمرار استهزاء بقولهم‏:‏ ‏{‏أيان‏}‏ أي متى وأي حين ‏{‏يوم الدين *‏}‏ أي وقوع الجزاء الذي يخبرنا به، ولولا أنهم بهذه الحالة لتذكروا من أنفسهم أنه ليس أحد منهم يبث عبيده أو أجراءه في عمل من الأعمال إلا وهو يحاسبهم على أعمالهم، وينظر قطعاً في أحوالهم، ويحكم بينهم في أقوالهم وأفعالهم فكيف يظن بأحكم الحاكمين أن يترك عبيدة الذين خلقهم على هذا النظام المحكم وأبدع لهم هذين الخافقين وهيأ لأجلهم فيهما ما لا ضرورة لهم في التزود للمعاد إلى سواه فيتركهم سدى يوجدهم عبثاً‏.‏

ولما تقرر أمر القيامة بالتعبير بساهون قال‏:‏ ‏{‏يوم‏}‏ أي نقول يوم ‏{‏هم على النار يفتنون *‏}‏ أي يرمون فيحرقون ويعذبون ويصبحون‏.‏‏.‏‏.‏ من الاختلاف مقولاً لهم على سبيل القرع والتوبيخ‏:‏ ‏{‏ذوقوا فتنتكم‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ العقوبة من الفتنة المحيطة‏.‏

‏.‏‏.‏ واستعجالكم ما توعدون استهزاء وتكذيباً ‏{‏هذا الذي كنتم به تستعجلون *‏}‏ أي تطلبون عجلته‏.‏‏.‏‏.‏ ‏{‏إن المتقين‏}‏ أي الذين كانت التقوى لهم وصفاً ثابتاً ‏{‏في جنات‏}‏ أي بساتين عظيمة نحن داخلها‏.‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وعيون *‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏{‏آخذين‏.‏‏.‏‏.‏ ما‏}‏ أي كل شيء ‏{‏آتاهم‏.‏‏.‏‏.‏ ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم‏.‏‏.‏‏.‏ بتمام علمه وشامل قدرته وهو لا يدع لهم لذة إلا أنحفهم بها فيقبلونها بغاية الرغبة لأنها في غاية النفاسة‏.‏ ولما كان هذا أمراً عظيماً يذهب الوهم في سببه كل مذهب، علله بقوله مؤكداً لنسبة الكفار لهم إلى الإساءة‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا‏}‏ أي كوناً هو كالجبلة‏.‏ ولما كان الإنسان إما يكون مطيعاً في مجموع عمره أو في بعضه‏.‏‏.‏‏.‏ على الطاعة، وكانت الطاعة تجبُّ ما قبلها، وتكون سبباً في تبديل السيئات حسنات فضلاً منه سبحانه، فكان كل من القسمين مطيعاً في جميع زمانه، نزع الجارّ فقال‏:‏ ‏{‏قبل ذلك‏}‏ أي في دار العمل، وقيل‏:‏ أخذوا ما فرض عليهم بغاية القبول لأنهم كانوا قبل فرض الفرائض يعملون على المحبة وهو معنى ‏{‏محسنين *‏}‏ أي في معاملة الخالق والخلائق، يعبدون الله كأنهم يرونه، ثم فسر إحسانهم معبراً عنه بما هو في غاية المبالغة بقوله‏:‏ ‏{‏كانوا‏}‏ أي لما عندهم من الإجلال له والحب فيه بحيث كأنهم مطبوعون عليه، ولغاية التأكيد وقع الإسناد إليهم مرتين ‏{‏قليلاً من الليل‏}‏ الذي هو وقت الراحات وقضاء الشهوات، وأكد المعنى بإثبات «ما» فقال‏:‏ ‏{‏ما يهجعون *‏}‏ أي يفعلون الهجوع وهو النوم الخفيف القليل، فما ظنك بما فوقه لأن الجملة تثبت هجوعهم وهو النوم للراحة، وكسر التعب وما ينفيه، وذكر الليل لتحقق المعنى فإن الهجوع النوم ليلاً، فالمعنى أنهم يحيون أكثر الليل وينامون أقله‏.‏ ولما كان المحسن لا يرى نفسه إلا مقصراً، قال دالاًّ على ذلك وعلى أن تهجدهم يتصل بآخر الليل مؤكداً بالإسناد مرتين أيضاً‏:‏ ‏{‏وبالأسحار‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ السحر‏:‏ السدس الأخير من الليل ‏{‏هم‏}‏ أي دائماً بظواهرهم وبواطنهم ‏{‏يستغفرون *‏}‏ أي يعدون مع هذا الاجتهاد أنفسهم مذنبين ويسألون غفران ذنوبهم لوفور علمهم بالله وأنهم لا يقدرون على أن يقدروه حق قدره وإن اجتهدوا لقول سيد الخلق «لا أحصي ثناء عليك» وإبراز الضمير دال على أن غيرهم لو فعل هذا ليلة لأعجب بنفسه ورأى أنه لا أحد أفضل منه، وعلى أن استغفارهم في الكثرة يقتضي أنهم يكونون بحيث يظن أنهم أحق بالتذلل من المصرين على المعاصي، فإن استغفارهم ذلك على بصيرة لأنهم نظروا ما له سبحانه في الآفاق وفي أنفسهم من الآيات والحكم البالغة التي لا تحصى فعلموا أنه أهل لأن يطاع ويخشى فاجتهدوا وتركوا الهجوع، وأجروا الدموع، ثم قابلوا ذلك بنعمه فإذا الأعمال في غاية التقصير فأقبلوا على الاستغفار عالمين بأنه لا يمكن أن يقدر حق قدره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 25‏]‏

‏{‏وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏19‏)‏ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏21‏)‏ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ‏(‏22‏)‏ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ‏(‏23‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏24‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

ولما ذكر معاملتهم للخالق، أتبعه المعاملة للخلائق تكميلاً لحقيقة الإحسان فقال‏:‏ ‏{‏وفي أموالهم‏}‏ أي كل أصنافها ‏{‏حق‏}‏ أي نصيب ثابت‏.‏ ولما كان السياق هنا للإحسان، فكان إحسانهم لفرط محبتهم إلى عباد الله لا يوقفهم عن الواجب بخلاف ما في «سأل» من سياق المصلين مطلقاً ترك وصفه بالمعلومية فقال‏:‏ ‏{‏للسائل‏}‏ أي الذي ينبه على حاجته بسؤال الناس وهو المتكفف ‏{‏والمحروم *‏}‏ وهو المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يسأل الناس ولا يفطن له ليتصدق عليه، وهذه صفة أهل الصفة رضي الله عنهم، فالمحسنون يعرفون صاحب هذا الوصف لما لهم من نافذ البصيرة ولله بهم من العناية‏.‏

ولما دل إقسامه بالسماء وما قبلها من الذاريات على ما له في العلويات من الآيات إلى أن ختم بالأموال التي تنبتها الأرض، فكان التقدير‏:‏ ففي السماوات آيات للمؤمنين دالات على عظمته واستحقاقه للعبادة بغاية الخضوع رغباً ورهباً، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وفي الأرض‏}‏ مما فيه أيضاً من الاختلاف بالمعادن الكثيرة المتباينة مع اتحاد أصلها والنبات والحيوان والجماد والبر والبحر وغير ذلك من الأسرار الدالة على الفاعل المختار ‏{‏آيات‏}‏ أي دلالات عظيمات هي مع وضوحها بعد التأمل خفيات ‏{‏للموقنين *‏}‏ الذين صار الإيقان لهم غريزة ثابتة، فهم لذلك يتفطنون لرؤية ما فيها مع ما يلابسهم منها من الأسباب فيشغلهم ولا يرون أكثر أسباب ما فيها من الآيات فأداهم ذلك إلى الإيقان بما نبهت عليه الرسل مما تستقل به العقول من البعث وغيره، قال القشيري‏:‏ من الآيات فيها أنها تحمل كل شيء، فكذلك العارف يحمل كل أحد ومن استثقل أحداً أو تبرم برؤيته أحداً فلغيبته عن الحقيقة ومطالعة الخلق بعين التفرقة‏.‏ وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة، ومن الآيات فيها أنه يلقى عليها كل قذارة وقمامة فتنبت كل زهر ونور وكذلك العارف يتشرب ما يلقى من الجفاء ولا يترشح إلا بكل خلق عليّ وشيمة زكية‏.‏

ولما أشار إلى آيات الآفاق، أتبعها آيات الأنفس فقال‏:‏ ‏{‏وفي أنفسكم‏}‏ أي من الآيات التي شاركتم بها الجماد، ثم فارقتموه بالنمو ثم بالحس ثم فارقتم الحيوان الخسيس بالعقل الموصل إلى بدائع العلوم ودقائق الفهوم‏.‏ ولما كانت أظهر الآيات، سبب عن التنبيه عليها الإنكار عليهم في ترك الاعتبار بها فقال‏:‏ ‏{‏أفلا تبصرون *‏}‏ أي بأبصاركم وبصائركم فتتأملوا ما في ذلك من الآيات وتتفكروا هل ترون أسباب أكثرها، فإن كل هذه آيات دالة على قدرة الصانع على كل ما يريد واختياره، وأنه ما خلق هذا لخلق سدى، فلا بد أن يجمعهم إليه للعرض عليه، فالموقنون لا يزالون ينظرون في أمثال هذا بعيون باصرة وأفهام نافذة، فكلما رأوا آية اعتبروا بها، فازدادوا إيماناً إلى إيمانهم، وإيقاناً مع إيقانهم، وأول نظرهم فما أودعوا من الآيات الحاجة، فمن تأملها علم أنه عبد، ومتى علم ذلك علم أن له رباً غير محتاج، ومن أبصر جميع الصفات والأسماء فنفذ فهمه في شفاف الكائنات، فارتقى إلى أعلى الدرجات‏.‏

ولما بان بما قدمته في ‏{‏المقسمات أمراً‏}‏ ما في جهة العلو من الأسباب الموجبة للنعمة والعذاب، قال‏:‏ ‏{‏وفي السماء‏}‏ أي جهة العلو ‏{‏رزقكم‏}‏ بما يأتي من المطر والرياح والحر والبرد وغير ذلك مما رتبه سبحانه لمنافع العباد ‏{‏وما توعدون *‏}‏ وجميع ما أتتكم به الرسل من الوعد والوعيد والصعقة والزلزال وغير ذلك من الأهوال وموجبات النكال، وكذا الرحمة والخير والنعمة وكل ما يتعلق به الآمال، فكما أنكم تصدقون بذلك وأنتم لا ترونه فكذلك صدقوا بالجنة والنار وإن لم تروها، فإنه لا فرق بين ماء ينزله الله فيكون منه رياض وجنات وشوك وأدواء ومرارات، وسموم وعقارب وحيات، وخشاش وسباع وحشرات، وبين ماء يعيد به الأموات، ثم يحشرهم إلى جنان ونيران، فكما أنه لا مرية في إظهار هذا الغيب فكذلك لا لبس في إظهار ذلك الغيب، ومن المعنى أيضاً أنك لا تشتغل برزق فإنه في السماء، ولا سبيل لك إلى العروج إليها، واشتغل بما كلفته من الخدمة لمن عنده الرزق ففي السماء الرزق وإليها يرفع العمل، فإن أردت أن ينزل إليك رزقك فأصعد إليها الصالح من عملك، ولهذا قالوا‏:‏ الصلاة فرع باب الرزق ‏{‏واصطبر عليها لا نسئلك رزقاً نحن نرزقك‏}‏‏.‏

ولما أقسم بما له من المقدورات لمن وقف مع المحسوسات المشهورات، فترقوا بذلك إلى أعلى الدرجات، وانكشف ما له من الكمال انكشافاً تاماً، وعلم أن في خزائنه سبحانه كل ما أخبرت عنه به الرسل من وعد ووعيد، سبب عنه قوله مقسماً بنفسه الأقدس لكن بصفة مألوفة فقال‏:‏ ‏{‏فورب‏}‏ أي مبدع ومدبر ‏{‏السماء والأرض‏}‏ بما أودع فيهما مما علمتموه وما لم تعلموه ‏{‏إنه‏}‏ أي الذي توعدونه من الخير والشر والجنة والنار وتقدم الإقسام عليه أنه صادق ‏{‏لحق‏}‏ أي ثابت يطابقه الواقع فقد جمع الحق مع الصدق ‏{‏مثل ما أنكم‏}‏ أي وأنتم مساوون لبقية ما في الأرض من الجمادات وغيرها ‏{‏تنطقون *‏}‏ نطقاً مجدداً في كل وقت مستمراً، ليس هو بخيال ولا سحر، أي أن ذلك لحق مثل ما أن هذا حق، فالذي جعل لكم قوة النطق من بين ما في الأرض بأسباب لا ترونها وتحصونها، ومع ما عداكم من ذلك بأسباب مثل ذلك قادر على الإتيان بوعده من الرزق وغيره ما دمتم تحتاجون إلى ذلك بما جعل فيكم من الحياة التي يصح بها العلم الناشئ عنه النطق المحوج إلى الرزق من أي جهة أرادوا، وإن لم تروا أسبابه كما أنه لو أراد لأنطق جميع من في السماوات والأرض من الجمادات بما يقيمه لها من الأسباب التي أقامها لكم وإن لم تروا ذلك‏.‏

ولما بين بما مضى من القسم وما أتبعه من أنه أودع في السماوات والأرض وما بينهما أسباباً صالحة للإتيان بما وعدناه من الخير، وما توعدنا به من الشر وإن كنا لم نرها وهو قادر مختار، فصار ذلك كالمشاهد، ولا وجه للتكذيب بوعد ولا وعيد، دل عليه وصوره بما شوهد من أحوال الأمم وبدأ- لأن السياق للمحسنين- برأس المحسنين من أهل هذه الأنباء الذي أخبرته الملائكة عليهم السلام بما سببه معه وإن كان على غير العادة‏.‏ فتعجب زوجته من ذلك مع كونها أعلى نساء ذلك الزمان، وأتبع قصته قصة لوط ابن أخيه عليهما السلام لاتصال ما بين قصتيهما في الزمان، ولمناسبة عذابهم لما أقسم به في أول السورة، فإنه سبحانه أمر الذاريات فاقتلعتهم بقراهم وحملتها كما تحمل السحاب ثم كبتهم فرجمتهم، والأرض فخسفت بهم، والملائكة الموكلة بمثل ذلك، ففعلوا جميع ما أمروا به ورأوهم في قريتهم وقصدوهم بالمكر لأنهم خفي عليهم أمرهم، وأتوا الخليل عليه السلام وهو أعلى ذلك الزمان وهم في ذلك ولم يعلم أول الأمر بشيء من حالهم ولا ظنهم إلا آدميين، فقال مفخماً لأمر القصة بتخصيص الخطاب لأعلى الخلق وأنفذهم فهما إشارة إلى أنه لا يفهم هذا حق فهمه سواه على طريق الاستفهام على عادة العرب في الإعلام بالأمور الماضية وإن كان المخبر عالماً بأن المخاطب لا علم له بذلك لأن المقصود ليس إلا التنبيه على أن ذلك الأمر مما ينبغي الاهتمام به والبحث فيه ليعرف ما فيه، من الأمور الجليلة؛ قال أبو حيان‏:‏ تقرير لتجتمع نفس المخاطب كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب فتقرره‏:‏ هل سمعت ذلك أم لا‏؟‏ فكأنك تقتضي بأن يقول‏:‏ لا، ويستطعمك الحديث- انتهى‏.‏ ‏{‏هل أتاك‏}‏ يا أكمل الخلق ‏{‏حديث ضيف‏}‏ عبر عنهم بلفظ الواحد إشارة إلى اتحاد كلمتهم ‏{‏إبراهيم *‏}‏ وهو خليلنا، ودل على أنه لم يعرف شيئاً مما أتوا به دالاًّ على أنهم جمع ‏{‏المكرمين *‏}‏ أي الذين هم أهل الكرامة، وأكرمهم إبراهيم عليه السلام بقوله وفعله، ففي حديثه ذلك آية بينة على ما بين في هذه السورة من قدرة الله تعالى وصدق وعده ووعيده، مع ما فيه من التسلية لك ولمن تبعك، والبشارة بإكرام المصدق وإهانة المكذب، قال القشيري‏:‏ وقيل‏:‏ كان عددهم اثني عشر ملكاً، وقيل‏:‏ جبريل عليه السلام، وكان معه تسعة، وقيل‏:‏ كانوا ثلاثة‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي حديثهم حين ‏{‏دخلوا عليه‏}‏ أي دخول استعلاء مخالف لدخول بقية الضيوف ‏{‏فقالوا سلاماً‏}‏ أي نحدث، ثم استأنف الأخبار عن جوابه بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي بلسانه‏:‏ ‏{‏سلام‏}‏ أي ثابت دائم، فهو أحسن من تحيتهم‏.‏

ولما كان ما ذكر من دخولهم وسلامهم غير مستغرب عند المخاطبين بهذا، وكانت القصة قد ابتدئت بما دل على غرابة ما يقص منها، تشوف السامع إلى ما كان بعد هذا فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏قوم‏}‏ أي ذوو قوة على ما يحاولونه ويقومون فيه ‏{‏منكرون *‏}‏ أي حالهم لإلباسه أهل لأن ينكره المنكر، وقدم هذا على موضعه الذي كان أليق به فيما يظهر بادي الرأي، وإيضاحاً لأن السياق لخفاء الأسباب على الآدمي وبعدها وإن كانت في غاية الظهور والقرب ولو أنه غاية العلو فإن إنكاره لهم كان متأخراً عن إحضار الأكل لكونهم لم يأكلوا، وهذا القول كان في نفسه ولم يواجههم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 37‏]‏

‏{‏فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ‏(‏26‏)‏ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ‏(‏27‏)‏ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ‏(‏29‏)‏ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏30‏)‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ‏(‏33‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ‏(‏34‏)‏ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏35‏)‏ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

ولما أشار إلى أنه حين إنكاره لهم لم يعرف من أي نوع هم ولا خصوص ما هم فيه، رتب على رده لسلامهم أنه أسرع غاية الإسراع في إحضار ما ينبغي للضيف على ظن أنهم آدميون فقال‏:‏ ‏{‏فراغ‏}‏ أي ذهب في خفية وخفة ومواضع سترة عن أعينهم كما هو من آداب الضيافة خوفاً من أن يمنعوه أو يكدر عليهم الانتظار‏:‏ ‏{‏إلى أهله‏}‏ أي الذين عندهم بقرة ‏{‏فجاء بعجل‏}‏ أي فتى من أولاد البقر ‏{‏سمين *‏}‏ قد شواه وأنضجه ‏{‏فقربه إليهم‏}‏ ولما أخبر بما ينبغي الإخبار به من أمر الضيافة إلا الأكل، كان من المعلوم أن التقدير‏:‏ فكان كأنه قيل‏:‏ فماذا قال لهم حين لم يأكلوا‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي متأدباً غاية التأدب ملوحاً بالإنكار‏:‏ ‏{‏ألا تأكلون *‏}‏ أي منه‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ فلم يأكلوا، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فأوجس‏}‏ أي أضمر إضمار الحال في جميع سره ‏{‏منهم خيفة‏}‏ لأجل إنكاره عدم أكلهم فإنه لما رأى إعراضهم عن الطعام ذهب وهمه في سبب إتيانهم إليه كل مذهب ‏{‏قالوا‏}‏ مؤنسين له‏:‏ ‏{‏لا تخف‏}‏ وأعلموه بأنهم رسل الله ‏{‏وبشروه بغلام‏}‏ على شيخوخته ويأس امرأته بالطعن في السن بعد عقمها، وهو إسحاق عليه السلام‏.‏ ولما كان السياق لخفاء الأسباب كان في الذروة وصفه بقوله‏:‏ ‏{‏عليم *‏}‏ أي مجبول جبلة مهيأة للعلم ولا يموت حتى يظهر علمه بالفعل في أوانه‏.‏

ولما كانا بعيدين عن قبول الولد، تسبب عن ذلك قوله، دالاًّ على أن الولد إسحاق مع الدلالة على أن خفاء الأسباب لا يؤثر في وجود المسببات‏:‏ ‏{‏فأقبلت‏}‏ أي من سماع هذا الكلام ‏{‏امرأته‏}‏ ولما كانت قد امتلأت عجباً، عبر بالظرف فقال‏:‏ ‏{‏في صرة‏}‏ أي صيحة وكرب من الصرير قد أحاط بها، فذهب وهمهما في ذلك كل مذهب ‏{‏فصكت‏}‏ أي ضربت بسبب تعجبها بأطراف أناملها فعل المتعجب ‏{‏وجهها‏}‏ لتلاشي أسباب الولد في علمها بسبب العادة مع معرفتها بأن العبرة في الأسباب وإن كانت سليمة بالمسبب لا بها، قال البغوي‏:‏ وأصل الصك ضرب الشيء بالشيء العريض ‏{‏وقالت‏}‏ تريد أن تستبين الأمر هل الولد منها أم من غيرها‏:‏ ‏{‏عجوز‏}‏ ومع العجز ‏{‏عقيم *‏}‏ فهي في حال شبابها لم تكن تقبل الحبل، قال القشيري رحمه الله تعالى‏:‏ قيل‏:‏ إنها كانت يومئذ ابنة ثمان وتسعين سنة‏.‏

ولما كان في هذا أشد تشوف إلى الجواب، استأنف تعالى الجواب بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا كذلك‏}‏ أي مثل ما قلناه من هذه البشرى العظيمة ‏{‏قال ربك‏}‏ أي المحسن إليك بتأهيلك لذلك على ما ذكرت من حالك وبتأهيلك من قبل الاتصال بخليله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولما كان محط تعجبها أن ذلك كان بأيام شبابها أولى، عللوا إخبارهم تأكيداً له مؤكدين لأن قولها وفعلها فعل المنكر وإن كانت ما أرادت به إلا الاستثبات‏:‏ ‏{‏إنه هو‏}‏ أي وحده ‏{‏العليم‏}‏ الذي يضع الأشياء في أحق مواضعها فرتب عظمة هذا المولود على كل من عقمك وعجزك؛ ثم عللوا ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏الحكيم *‏}‏ أي المحيط العلم فهو كذلك لا يعجزه شيء لما تقدم من البرهان في سورة طه أن إحاطة العلم مستلزم شمول القدرة‏.‏

ولما كان الخليل عليه السلام أعلم أهل زمانه بالأمور الإلهية، علم أن اجتماع الملائكة على تلك الهيئة التي يراهم فيها ليس لهذه البشارة فقط، فلذلك استأنف تعالى الجواب لمن كان كأنه قال‏:‏ ما كان من حاله وحالهم بعد هذا‏؟‏ بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي قال مسبباً عما رأى من حالهم‏:‏ ‏{‏فما خطبكم‏}‏ أي خبركم العظيم ‏{‏أيها المرسلون *‏}‏ أي لأمر عظيم ‏{‏قالوا‏}‏ قاطعين بالتأكيد بأن مضمون خبرهم حتم لا بد منه، ولا مدخل للشفاعة فيه‏:‏ ‏{‏إنا أرسلنا‏}‏ أي بإرسال من تعلم ‏{‏إلى قوم مجرمين *‏}‏ أي هم في غاية القوة على ما يحاولونه وقد صرفوا ما أنعم الله به عليهم من القوة في قطع ما يحق وصله ووصل ما يحق قطعه ‏{‏لنرسل عليهم‏}‏ أي من السماء التي فيها ما وعد العباد به وتوعدوا ‏{‏حجارة من طين *‏}‏ أي مهيأ للاحتراق والإحراق ‏{‏مسومة‏}‏ أي معلمة بعلامة العذاب المخصوص‏.‏ ولما كان قد رأوا اهتمامه بالعلم بخبرهم خشية من أن يكونوا أرسلوا لعذاب أحد يعز عليه أمره، أمنوا خوفه بوصف الإحسان فقالوا‏:‏ ‏{‏عند ربك‏}‏ أي المحسن إليك بهذه البشارة وغيرها ‏{‏للمسرفين *‏}‏ أي المتجاوزين للحدود غير قانعين بما أبيح لهم‏.‏

ولما كان من المعلوم أن القوم يكونون تارة في مدر وتارة في شعر، وعلم من الآيات السالفة أن العذاب مختص بذوي الإسراف، سبب عن ذلك مفصلاً لخبرهم قوله تعالى معلماً أنهم في مدر‏:‏ ‏{‏فأخرجنا‏}‏ بما لنا من العظمة بعد أن ذهبت رسلنا إليهم ووقعت بينهم وبين لوط عليهم السلام محاولات معروفة لم تدع الحال هنا إلى ذكرها، والملائكة سبب عذابهم، وأهل القرية المحاولون في أمرهم لا يعرفون ذلك، وهذه العبارة إن كانت إخباراً لنا كانت خبراً عما وقع لنعتبر به، وإن كانت لإبراهيم عليه السلام كان معناها أن الحكم الأعظم وقع بإخراجهم بشارة له بنجاتهم ‏{‏من كان فيها‏}‏ أي قراها‏.‏ ولما كان القلب عماد البدن الذي به صلاحه أو فساده، فكان عمله أفضل الأعمال أنه به يكون استسلام الأعضاء أو جماحها، بدأ به فقال‏:‏ ‏{‏من المؤمنين *‏}‏ أي المصدقين بقلوبهم لأنا لا نسويهم بالمجرمين فخلصناهم من العذاب على قلتهم وضعفهم وقوة المخالفين وكثرتهم، وسبب عن التعبس والستر والتعرض للظواهر والبواطن قوله‏:‏ ‏{‏فما وجدنا‏}‏ أسند الأمر إليه تشريفاً لرسله إعلاماً بأن فعلهم فعله ‏{‏فيها غير بيت‏}‏ واحد وهو بيت لوط ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وقيل‏:‏ كان عدة الناجين منهم ثلاثة عشر، ولما كان الإسلام قد تطلق على الظاهر فقط وإن كان المراد هنا الأخص أخره فقال‏:‏ ‏{‏من المسلمين *‏}‏ أي العريقين في الإسلام الظاهر والباطن لله من غير اعتراض أصلاً وهم إبراهيم وآله عليهم السلام فإنهم أول من وجد منه الإسلام الأتم، وتسموا به كما مضى في البقرة وسموا به أتباعهم، فكان هذا البيت الواحد صادقاً عليه الإيمان الذي هو التصديق والإسلام الذي هو الانقياد، قال البغوي‏:‏ وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعاً لأنه ما آمن مؤمن إلا وهو مسلم‏.‏

يعني لما بينها من التلازم وإن اختلف المفهومان، وقال الأصبهاني‏:‏ وقيل‏:‏ كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر‏.‏

ولما وكان إبقاء آثار المهلكين أدل على قدرة من أهلكهم قال‏:‏ ‏{‏وتركنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏فيها‏}‏ أي تلك القرى بما أوقعنا بها من العذاب الذي كان مبدؤه أنسب شيء بفعل الذاريات من السحاب فإنا قلعنا قراهم كلها وصعدت في الجو كالغمام إلى عنان السماء ولم يشعر أحد من أهلها بشيء من ذلك ثم قلبت وأتبعت الحجارة ثم خسف بها وغمرت بالماء الذي لا يشبه شيئاً من مياه الأرض كما أن خباثتهم لم تشبه خباثة أحد ممن تقدمهم من أهل الأرض ‏{‏آية‏}‏ أي علامة عظيمة على قدرتنا على ما نريد ‏{‏للذين يخافون‏}‏ كما تقدم آخر ق أنهم المقصودون في الحقيقة بالإنذار لأنهم المنتفعون به دون من قسا قلبه ولم يعتبر ‏{‏العذاب الأليم *‏}‏ أي أن يحل بهم كما حل بهذه القرى في الدنيا من رفع الملائكة لهم في الهواء الذاري إلى عنان السماء وقلبهم وإتباعهم الحجارة المحرقة، وغمرهم بالماء المناسب لفعلهم بنتنه وعدم نفعه، وما ادخر لهم في الآخرة أعظم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 46‏]‏

‏{‏وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏39‏)‏ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏40‏)‏ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ‏(‏41‏)‏ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ‏(‏42‏)‏ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ‏(‏43‏)‏ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏44‏)‏ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ‏(‏45‏)‏ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

ولما قدم سبحانه أحق القصص الدالة على قسمه وما أقسم عليه بما فيها من خفاء الأسباب مع وجودها، ثم ما فيها من إنزال ما به الوعيد من السماء بالنار والماء الذي أشير إليه بالمقسمات، مع الفرقة بين المسلم والمجرم، أتبعها قصة من أيده بحاملات فيها مطر وبرد ونار مضطرمة، كما مضى بيانه في الأعراف، ثم بعد ذلك بريح فرقت البحر ونشفت أرضه ودخله فرعون والقبط، وهو واضح الأمر في أنه سبب لهلاكهم وهم لا يشعرون به، فقال عاطفاً على المقدر في قصة إبراهيم عليه السلام أو الظاهر في ‏{‏وفي الأرض‏}‏ أو على «في» التي في قوله ‏{‏وتركنا فيها آية للذين يخافون‏}‏ وهذا أقرب من غيره وأولى‏:‏ ‏{‏وفي موسى‏}‏ أي في قصته وأمره آية على ذلك عظيمة ‏{‏إذ أرسلناه‏}‏ بعظمتنا ‏{‏إلى فرعون‏}‏ الذي كان قد أساء إلى إبراهيم عليه السلام بعد عظيم إحسانهم إله وإلى جميع قومه بما أحس إليهم يوسف عليه السلام ‏{‏بسلطان مبين *‏}‏ أي معجزات ظاهرة في نفسه منادية من شدة ظهورها بأنها معجزة، فكان فيها دلالة واضحة على صدق وعيده ومع ذلك فلم ينفعهم علمها ولذلك سبب عنه وعقب به قوله‏:‏ ‏{‏فتولى‏}‏ أي كلف نفسه الإعراض بعد ما دعاه علمها إلى الإقبال إليها، وأشار إلى توليه بقوله‏:‏ ‏{‏بركنه‏}‏ أي بسب ما يركن إليه من القوة في نفسه وبأعوانه وجنوده أو بجميع جنوده- كناية عن المبالغة في الإعراض، ‏{‏وقال‏}‏ معلماً بعجزه عما أتاه به وهو لا يشعر‏:‏ ‏{‏ساحر‏}‏ ثم ناقض كمناقضتكم فقال بجهله عما يلزم على قوله‏:‏ ‏{‏أو مجنون *‏}‏ أي لاجترائه عليّ مع ما لي من عظيم الملك بمثل هذا الذي يدعو إليه ويتهدد عليه‏.‏

ولما وقعت التسلية بهذا للأولياء، قال تعالى محذراً للأعداء‏:‏ ‏{‏فأخذناه‏}‏ أي أخذ غضب وقهر بعظمتنا بما استدرجناه به وأوهناه به من العذاب الذي منه سحاب حامل ماء وبرداً وناراً وصواعق ‏{‏وجنوده‏}‏ أي كلهم ‏{‏فنبذناهم‏}‏ أي طرحناهم طرح مستهين بهم مستخف لهم كما تطرح الحصيات ‏{‏في اليم‏}‏ أي البحر الذي هو أهل لأن يقصد بعد أن سلطنا الريح فغرقته لما ضربه موسى عليه السلام بعصاه ونشفت أرضه، فأيبست ما أبرزت فيه من الطرق لنجاة أوليائنا وهلاك أعدائنا ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أن فرعون ‏{‏مليم *‏}‏ أي آتٍ بما هو بالغ في استحقاقه الملامة، ويجوز أن يكون حالاً من ‏{‏أليم‏}‏ بمعنى أنه فعل بهم فعل اللائم من ألامه- إذا بالغ في عذله، وصار ذا لائمة أي لهم، من ألام- لازماً، وأن يكون مخففاً من لأم المهموز فيكون المعنى‏:‏ فهو مصلح أي فاعل فعل المصلحين في إنجاء الأولياء وإغراق الأعداء بالالتئام والانطباق عليهم، قال في القاموس‏:‏ اللوم العدل، لام لوماً وألامه ولومه للمبالغة، وألام‏:‏ أتى ما يلام عليه أو صار ذا لائمة، ولأمه بالهمز كمنعه، نسبه إلى اللوم، والسهم‏:‏ أصلحه كألامه ولأمه فالتأم، ولا يضر يونس عليه السلام أن يعبر في حقه بنحو هذه العبارة، فإن أسباب اللوم تختلف كما أن أسباب المعاصي تختلف في قوله

‏{‏وعصوا رسله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 59‏]‏ ‏{‏وعصى آدم ربه‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏ وبحسب ذلك يكون اختلاف نفس اللوام ونفس المعاصي‏.‏

ولما أتم قصة من جمع له السحاب والماء والنار والريح، أتبعها قصة من أتاهم بريح ذارية لم يوجد قط مثلها، وكان أصلها موجوداً بين ظهرانيهم وهم لا يشعرون، بل قاربت الوصول إليهم وهم يظنونها مما ينفعهم‏:‏ ‏{‏وفي عاد‏}‏ أي آية عظيمة ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏أرسلنا‏}‏ بعظمتنا ‏{‏عليهم‏}‏ إرسال علو وأخذ ‏{‏الريح‏}‏ فأتتهم تحمل سحابة سوداء وهي تذرو الرمل وترمي بالحجارة على كيفية لا تطاق ‏{‏العقيم *‏}‏ أي التي لا ثمرة لها فلا تلقح شجراً ولا تنشئ سحاباً ولا تحمل مطراً ولا رحمة فيها ولا بركة فلذلك أهلكهم هلاك الاستئصال، ثم بين عقمها وإعقامها بقوله‏:‏ ‏{‏ما تذر‏}‏ أي تترك على حال ردية، وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ ولما كان إهلاكها إنما هو بالفاعل المختار، نبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏أتت عليه‏}‏ أي إتيان إرادة مرسلها، استعلاها على ظاهره وباطنه، وأما من أريدت رحمته كهود عليه السلام ومن معه رضي الله عنهم فكان لهم روحاً وراحة لا عليهم ‏{‏إلا جعلته كالرميم *‏}‏ أي الشيء البالي الذي ذهلته الأيام والليالي، فصيره البلى إلى حالة الرماد، وهو في كلامهم ما يبس من نبات الأرض ودثر- قاله ابن جريج، وخرج بالتعبير ب «تذر» هود عليه السلام ومن معه من المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين، فإنهم تركتهم على حالة حسنة لم يمسهم منها سوء كما أشير إلى مثل ذلك بأداة الاستعلاء‏.‏

ولما تم ما اقتضاه سياق السورة من قصة أهل الريح الذارية، أتبعها قصة من أهلكوا بما يحمله السحاب من الريح وما تحمله الريح من صوت الصيحة الراجفة الماحقة فقال‏:‏ ‏{‏وفي ثمود‏}‏ أي قوم صالح عليه السلام آية عظيمة كذلك ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏قيل لهم‏}‏ ممن لا يخلف المعياد‏:‏ ‏{‏تمتعوا‏}‏ أي بلبن الناقة وغيره مما مكناكم فين من الزرع والنخيل والأبنية في الجبال والسهول وغير ذلك من جلائل الأمور الذي أمرناكم به ولا تطغوا ‏{‏حتى حين *‏}‏ أي وقت ضربناه لآجالكم ‏{‏فعتوا‏}‏ أي أوقعوا بسبب إحساننا إليهم العتو، وهو التكبر والإباء ‏{‏عن أمر ربهم‏}‏ أي مولاهم الذي أعظم إحسانه إليهم فعقروا الناقة وأرادوا قتل نبيه عليه السلام ‏{‏فأخذتهم‏}‏ بسبب عتوهم أخذ قهر وعذاب ‏{‏الصاعقة‏}‏ أي الصيحة العظيمة التي حملتها الريح، فأوصلتها إلى مسامعهم بغاية العظمة، ورجت ديارهم رجة أزالت أرواحهم بالصعق، وقوله‏:‏ ‏{‏وهم ينظرون *‏}‏ دال على أنها كانت في غمام، وكان فيها نار، ويجوز- مع كونه من النظر- أن يكون أيضاً من الانتظار، فإنهم وعدوا نزول العذاب بعد ثلاثة أيام، وجعل لهم في كل يوم علامة وقعت بهم فتحققوا وقوعه اليوم الرابع ‏{‏فما‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنه ما ‏{‏استطاعوا‏}‏ أي تمكنوا، وأكد النفي فقال‏:‏ ‏{‏من قيام‏}‏ أي بعد مجيئها بأن عاجلتهم بإهلاكها عن القيام‏.‏

ولما كان الإنسان قد لا يتمكن من القيام لعارض في رجليه وينتصف من عدوه بما يرتبه من عقله ويدبره برأيه قال‏:‏ ‏{‏وما كانوا‏}‏ أي كوناً ما ‏{‏منتصرين‏}‏ أي لم يكن فيهم أهلية للانتصار بوجه، لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم فيطاوعونه في النصرة لأن تهيؤهم لذل سقط بكل اعتبار‏.‏

ولما أتم قصة من أهلكوا بما من شأنه الإهلاك وهو الصاعقة، أتبعهم قصة من أهلكوا بما من شأنه الإحياء، وهو الماء الذي جل ما يشتمل عليه الحلامات التي أثارتها الذاريات، وقد كانوا موجودين في الأرض والسماء- وأسبابه مهيأة- وهم لا يحسون بشيء من ذلك، وأما عبادنا المؤمنون فهيأنا لهم أسباب النجاة من السفينة وغيرها، وأعلمناهم بها، فكان كل ما أردنا وقاله عنا أولياؤنا فقال مغيراً للأسلوب تنبياً على العظمة بنفسه الإهلاك لكونه بما من شأن الإحياء والإبقاء والتصرف في الأسباب‏:‏ ‏{‏وقوم‏}‏ أي وأهلكنا قوم ‏{‏نوح‏}‏ على ما كان فيهم من الكثرة وقوة المحاولة والقيام بما يريدونه، ويجوز أن يكون معطوفاً على «فيها» أي وتركناهم آية، ويحسن هذا الإعراب أنهم هلكوا جميعاً وكانوا جميع أهل الأرض، وعم عذابهم جميع الأرض، كانوا لهم الآية، ويؤيد هذا الإعراب قراءة أي عمرو وحمزة والكسائي بالجر عطفاً على ضمير «فيها»‏.‏

ولما كان إهلاكهم على عظمه وانتشاره في بعض الزمان، أدخل الجارّ فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل هذه الأمم كلها، ثم علل إهلاكهم بقوله‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا‏}‏ خلقاً وطبعاً، لا حيلة لغيرنا من أهل الأسباب في صلاحهم ‏{‏قوماً‏}‏ أي أقوياء ‏{‏فاسقين *‏}‏ أي عريقين في الخروج عن حظيرة الدين‏.‏